إذا كانت القاعدة الجنائية الموضوعية هي تعبير يفرض به المشرع إرادته على أعضاء الجماعة،يحدد فيه أنواع السلوك التي لا يجوز للأفراد إتيانها،مع تقرير جزاء على مخالفتها ،فإن القاعدة الجنائية الإجرائية هي قاعدة تهدف إلى تحديد وسائل تطبيق قانون العقوبات ،تتضمن مساساً بالحريات الشخصية.
هذه القاعدة بشقها تتعارض تعارضا كاملا مع الحرية الفردية في الأنظمة الدكتاتورية ،لان حق الدولة في العقاب وتنظيم وسائل الوصول إليه يعلو الحريات الفردية . فإقرار سلطة الدولة في العقاب قد ينتهي إلى تجريد الفرد من ضمانات حريته .ففي النظام الفاشي ،القانون يأتي من الدولة ويوجد من اجلها ،مع كونها لا تخضع لأي مبدأ . وفي النظام النازي،المبني على سمو الدولة على الفرد،حلت السلطة المطلقة محل سيادة القانون للدولة .وفي النظام الشيوعي، القانون هو أداة سياسية في يد الدولة الاشتراكية ،الذي لا قيمة له إلا من خلال كونه أداة لتحقيق الشرعية الاشتراكية
لذلك فان هذه الأنظمة الشمولية، حيدت كل القيود التي يمكن أن ترد على سلطة المشرع الجنائي، من اجل حماية مصلحة النظام السياسي وتحقيق توجيهاته ،مما يعني أن منطق القانون ومنطق حقوق الإنسان – في هذه الأنظمة -هما منطقان متعارضان تماماً..
ومن أجل الخروج من هذا التعارض بين القانون الجنائي وحقوق الإنسان يجب أن يكون هناك احتواء متبادل بينهما فكما أن القانون الجنائي يجب أن يحوي حقوق الإنسان حقوق الإنسان بدورها يجب أن تأخذ في الاعتبار مقتضيات وضرورات الحياة في مجتمع منظم.
لذلك فان هناك تكاملية بين حقوق الإنسان والقانون الجنائي ويجب أن تحل محل التصادمية بينهما. فالمشروع يجب أن تتنازعه ضرورتان .. ضرورة قمع ومكافحة الجريمة،وضرورة حماية الفرد من تعسف الدولة في استعمالها لحقها في العقاب .
فلا يجب أن تتغلب مصلحة النظام على الحرية الفردية بشكل مطلق ،ولا يجب أن يكون هناك إطلاق للحريات بشكل يؤدي للإضرار بالآخرين أو بالنظام العام .
وإذا كان الأمر كذلك، فإن القانون الجنائي،بشقيه الموضوعي والإجرائي، الذي يهدف إلى مكافحة الجريمة ،وإخضاع القوة للقانون،يمثل حصنا لحماية الفرد ضد الجريمة من ناحية،وضد الدولة من ناحية أخرى،مادام مبنيا على إحداث توازن بين مصلحتين :مصلحة حماية الآخرين والنظام العام القيم ،ومصلحة حماية الحرية الفردية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:ما هي الكيفية التي يمكن من خلالها أحداث هذا التوازن؟
هذا ما عبرت عنه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في حكم لها صدر بتاريخ 23 / 7/ 1968 قررت فيه أن على المشرع الجنائي إيجاد توازن دقيق بين حماية المصلحة العامة للمجتمع واحترام حقوق الإنسان ،وانه وان كان له تبني قيود على الحريات الفردية،إلا أن ذلك يجب أن يكون في مجتمع ديمقراطي،وان تكون هذه القيود مبنية على حاجة ماسة،ومتناسبة مع الهدف المشروع الذي يسعي إليه .
مما يعني – حسب حكم هذه المحكمة- وجوب تجنب المشرع الإفراط بعدم التدخل إلا لضرورة وبوسائل تتناسب مع المصلحة محل الحماية .
وإذا رجعنا إلى وثائق وإعلانات حقوق الإنسان ،فإننا نجدها قد تضمنت وسيلة أكثر وضوحا لإحداث التوازن داخل القانون الجنائي بنصها على ضمانات احترام الحقوق والحريات الفردية ،يلتزم المشرع الجنائي بالوقوف عندها عند ممارسته لسلطته في إيجاد القاعدة الجنائية موضوعية كانت أم إجرائية .
والنص الجنائي الذي ينتهك هذه الضمانات هو نص تعسفي ينتهك التوازن الذي يجب أن يبني عليه القانون الجنائي . بمعني آخر،هذه الضمانات يجب أن تشكل مبادئ عامة للقانون الجنائي لا يجوز تجاوزها أيا كانت أداة التشريع فالتطابق بين فئة الإحكام والمحكومين لا يلغي الحاجة لضرورة الخضوع لهذه الضمانات ،ذلك لان هذه المبادئ تهدف لحماية الحرية الفردية سواء كانت أداة التشريع البرلماني أم الشعب.
وبالتالي، فإن سلطة الشعب لا يمكن أن تكون مطلقة أو خالية من القيود .أي أن الشعب ليس له حرية تامة في أن يضع ما يشاء من تشريعات دون ضوابط.
والقول بغير ذلك يؤدي إلى استبعاد كافة ضمانات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ،مما يعني أن نظام الديمقراطية المباشرة قد يكون اشد تسلطية واستبدادية، وأكثر قابلية لانتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية من الأنظمة البرلمانية، التي تخضع فيها السلطة التشريعية لمبادئ ذات دستورية .
ذلك لان استبعاد وجود مبادئ عليا يتقيد بها المشرع في نظام الديمقراطية المباشرة،يعني إمكانية فرض عقوبات جماعية،لا تتقيد بمبدأ شخصية العقوبة، وإقرار عقوبات تسري بأثر رجعي،غير متناسبة مع العقل المجرم، وبدون حكم قضائي ؟، ووضع قيود على الحريات الفردية بغير ضرورة .
وهذا ما لا يمكن قبوله، لان الديمقراطية هي وسيلة للحرية وليست وسيلة للعسف بها.
لذلك فإن هناك حاجة ماسة لوضع قيود على سلطة التشريع ،حتى لو كانت أداة التشريع الشعب .كما أن حدوث انفصام بين القاعدة الجنائية وهذه القيود ذات الطبيعية الدستورية يجب أن يؤدي إلى موت القاعدة الجنائية ،ووسيلة ذلك رقابة فعالة لدستورية القوانين من شأنها أن تمنع صدور قوانين مناهضة للحرية (رقابة سابقة)أو تسمح بإلغائها (رقابة لاحقة)على نحو يكفل حدوث تناغم بين قواعد النظام القانوني ،ويمنع وجود نص دستوري أعلى يكفل الحرية ونص تشريعي أدنى يهدرها،فبدون هذه الرقابة يمكن ان تتحول الضمانات الواردة في الدساتير والقوانين الأساسية حبرا على ورق .
واستجابة لذلك،تبنى المشرّع الليبي الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان 1988 التي نصت في بندها السادس والعشرين على ((أن أبناء المجتمع الجماهيري يلتزمون ويحرمون كل فعل مخالف للمبادئ والحقوق التي تضمنتها ولكل فرد الحق في اللجوء إلى القضاء لإنصافه من أي مساس بحقوقه وحرياته الواردة فيها)) وأصدر قانون تعزيز الحرية رقم 20 / 1991 ف ،الذي نص في مادته الخامسة والثلاثين على أن ((أحكام هذا القانون أساسية،ولا يجوز أن يصدر ما يخالفها ،ويعدل كل ما يتعارض معها من تشريعات)).
فالوثيقة الخضراء وقانون تعزيز الحرية تضمنا مجموعة من أسس أحداث التوازن بين المصلحة العامة والحرية الفردية، منها ما يتعلق بالقواعد الجنائية الموضوعية والإجرائية .
ولضمان احترام ذلك اصدر المشرع الليبي القانون رقم 17 /1423 م الذي نص في مادته الأولى على تعديل المادة الثالثة والعشرين من القانون رقم 6 /1982 ف بإعادة تنظيم المحكمة العليا ،بحيث أصبحت تختص برقابة دستورية القوانين .
إلا أن خصوصية النظام الليبي تطرح إشكالية مهمة.هذه الإشكالية تتمثل في أن إجراءات تبني القوانين الأساسية لا تختلف عن إجراءات تبني القوانين العادية وبالتالي فان تدرج القاعدة القانونية من قاعدة أساسية إلى قاعدة عادية لا يمكن الاهتداء إليه إلا من خلال (موضوعها)أو من خلال احتواء القانون على نص يشير إلى أنه أساسي لا يجوز الخروج عن إحكامه ،مما يعني أن السلطة التشريعية تقيد سلطانها بإدارتها الذاتية .
على أننا نرى كون السلطة المختصة بإصدار كافة القوانين واحدة لا يمنع من إحداث اختلاف من حيث الإجراءات والشروط اللازمة لإصدار القوانين الأساسية وتلك اللازمة لإصدار القوانين العادية .
فاشتراط نصاب لتبني أو تعديل القوانين الأساسية يتجاوز النصاب الكافي لإصدار أو تعديل القوانين العادية من شأنه أن يحدث التمايز بين السلطة التشريعية والسلطة التأسيسية داخل النظام القانوني الليبي وتصبح الهيئة ذاتها عندما تصدر القانون العادي،وبالتالي يكون أساس رقابة دستورية القوانين المتمثل في تدرج القاعدة القانونية أكثر وضوحاً ،ويكون للقيود التي ترد على من يملك تقيد الحرية معنى.
وفي إطار عدم وجود هذا التمايز بين السلطتين التأسيسية والتشريعية،فإن المشرع نفسه، الذي أصدر الوثيقة الخضراء وقانون تعزيز الحرية،بإمكانه أن يصدر تشريعات تتعارض معهما ،فمن وضع القيد على سلطته يمكن له أن يزيله ،مما يعنى أنه لا يمكن اعتباره قيداً حقيقياً يحمي الفرد في مواجهة تعسف السلطة ولا يمكن القول بأن المحكمة العليا هي التي تمنعه من إزالة القيد الذي وضعه بمقتضى إرادته بخلاف ما لو كان للمحكمة العليا سلطة إلغاء القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية بالمخالفة لما وضعته السلطة التأسيسية من ضوابط.
باختصار ،لكي يكون للضوابط المقررة لإحداث التوازن بين المصلحة العامة والحريات الفردية معني وفاعلية يجب – حسب وجهة نظرنا- الخروج من فكرة القيد الذاتي أو الخضوع الإرادي للقانون،فسلطان السلطة التشريعية يجب أن يتقيد بإرادة أعلى .