كما يعتبر (جرمي بنتام) من أقطاب هذه المدرسة، وكان لآرائه صدى في انجلترا حيث ركز على المنفعة الاجتماعية، ويرى أنه لا يوجد ضرورة لإيقاع العقوبة إلا إذا حقق الجاني من ورائها منفعة اجتماعية لأن هذه الأخيرة هي المحرك الأساسي لقيامه بهذه الأفعال كما يعتبر)قويرباخ( من مؤسسي هذه المدرسة حيث يرى ضرورة التركيز على الجانب النفسي ويرى أنه إذا كان الجاني قد قام بفعل مناهض للمجتمع لابد أنه يسعى إلى تحقيق لذة من وراء ذلك، ويوصي بأن تكون العقوبة رادعة، حتى تجعل الجاني يفكر عند إقدامه على ارتكاب أي فعل أن يوازن بين اللذة والألم. ما مدى مساهمة المدرسة التقليدية في ظهور المبدأ وانتشاره ؟ تعتبر هذه المدرسة هي أولى المدارس الفقهية التي وضعت إرهاصات الشرعية النصية، وذلك بعد أن أصدر بكاريا كتابه الشهير عن )الجرائم والعقوبات سنة (1764 الذي نادى فيه بمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات كما نادى بأن تكون الجرائم والعقوبات واضحة، ويقتصر دور القاضي على تطبيق القانون، وبذلك يكون قد قطع خط الرجعة على القاضي الذي كان يتمتع قبل ذلك بسلطة تحكيمية واسعة. كما أخذ بأفكار هذه المدرسة عند صياغة أول قانون للعقوبات في أوروبا والذي صدر في عهد )ليو بولد الثاني أمير توسكانيا في بيزا سنة( 1786 ومن مميزات هذا القانون إلغاء وسائل التعذيب. كذلك ساهمت هذه المدرسة في انتشار مبدأ الشرعية، حيث شاع صيت هذه المدرسة في الدول الأوروبية وسرعان ما أخذت بمبادئها العديد من التشريعات. ولعل أبرز مثال على ذلك – إعلان حقوق الإنسان والمواطن- الذي أصدرته الثورة الفرنسية سنة 1789 وقد نصت المادة و الثامنة منه على أنه ) لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون وضع قبل الجريمة وطبق على وجه قانوني) كذلك كان لهذه المدرسة أثر في قانون العقوبات الفرنسي الذي صدر سنة 1810 وجاء متضمنا لمبدأ الشرعية، كما عمل هذا القانون على الحد من السلطة التقديرية للقاضي، حيث حدد الجرائم والعقوبات تحديداً دقيقاً بأن جعل لها حداً واحداً، وأصبح دور القاضي يقتصر على تطبيق النص، وبذلك نستطيع أن نقول إن المدرسة التقليدية ساهمت في ظهور المبدأ وانتشاره من خلال المبادئ التي قامت عليها هذه المدرسة. المدرسة التقليدية الجديدة : قامت هذه المدرسة نتيجة للنقد الذي وجه للمدرسة التقليدية ومن أقطاب هذه المدرسة -إيمانويل كانت- والفيلسوف الفرنسي – جوزيف دي مايستر- وقد عرفها الفيلسوف – كانت- بمدرسة العدالة المطلقة، كما يرى أن العقاب في إطار فلسفة المدرسة التقليدية الجديدة يقوم على أساس الضرورات الأخلاقية، ولم يتخذ من المنفعة أساساً له، وكذلك فسر الجريمة بمثابة خطأ في حق المجتمع، وعليه فيجب على الجاني أن ينال جزاءه نتيجة للمخالفة التي ارتكبها حتى يتحقق إرضاء الشعور العام بالعدالة، كما قام بعد ذلك الفيلسوف -روسي- بمحاولة التوفيق بين فكرة العدالة والمنفعة. ما مدى مساهمة المدرسة التقليدية الجديدة في ظهور المبدأ وانتشاره ؟ لقد رأينا من خلال دراسة هذه المدرسة أنها سمت نفسها مدرسة -العدالة المطلقة- والحقيقة أن جوهر الأخذ بمبدأ الشرعية هو معرفة إلى أي حد يستطيع المجتمع التخفيف من حدة الجمود التي تميزت بها سياسة المدرسة التقليدية. كما ساهمت في إرساء مبدأ الشرعية عن طريق إعادة النظر في مفهوم حرية الاختيار، وأثبتت أن درجات حرية الاختيار مختلفة، فعند البعض نجدها ناقصة، إن لم تكن مفقودة، كما أضافت هذه المدرسة شرط الإدارك والتميز كشرط للمسؤولية الجنائية، بمعنى أنها أرست القواعد المعفية من العقوبة، كما قامت هذه المدرسة بإنشاء الجمعية العامة للسجون سنة 1977 بفرنسا، وعملت على إرساء دعائم علم السجن، والبحث عن الوسائل العملية التي تساعد في إصلاح الجاني والعمل على إعادته سويا داخل المجتمع، كما أردت هذه المدرسة ضرورة التفرقة بين الجرائم العادية والسياسية، والحقيقة أننا نرى أن المدرسة التقليدية الجديدة قد ساهمت مساهمة مباشرة في إرساء دعائم علم عقاب، وعملت على التمسك بمبدأ الشرعية والتخفيف من حدته، وجاء هذا كتلاف للأخطاء التي وقعت فيها المدرسة التقليدية.
وكان لهذه المدرسة تأثير قوي في بعض التشريعات، فقد تأثر بها قانون العقوبات الألماني الصادر في سنة 1870 وقانون العقوبات الإيطالي المعروف سنة 1879 (3).
عند البحث عن مدى تمسك أي نظام قانوني بمبدأ الشرعية لابد أن تكون النقطة الجديرة بالدراسة هي مدى تمسك هذا النظام القانوني بنتائج المبدأ فالنص على المبدأ في طيات الدساتير والقوانين غير كاف، ولا يحقق الغرض الذي ناضلت من أجله الشعوب في سبيل إرساء دعائم هذا المبدأ، ولكن الذي يجعل هذا المبدأ محققا لأغراضه هو التمسك بالنتائج المترتبة على الأخذ به.
وهي بمثابة الممارسة العملية للمبدأ، فلو نظرنا الى العديد من الانظمة القانونية قد نجدها تنص على المبدأ ولكنها تهدره في نفس الوقت نظرا لعدم الالتزام بالنتائج المترتبة على الأخذ به، وعليه سيكون الموضوع الذي نحن بصدد مناقشته في هذا المبحث هو النتائج المترتبة على اقرار مبدأ الشرعية، ومن هذه النتائج التقيد بالنص المكتوب باعتباره المصدر الوحيد للتجريم والعقاب أي أن السلطة التشريعية هي التي تملك حق التجريم والعقاب ، واعطاء جهة أخرى ممارسة هذا الحق يكون على سبيل الاستثناء، ومن نتائجه أيضا عدم رجعية القانون أي يجب أن يطبق القانون بأثر فوري غير أنه يرد على هذا استثناءات، سيتم توضيحها في حينه.
وبما أن فحوى هذا المبدأ(لاجريمة ولاعقوبة إلا بنص) إذا يجب الالتزام بالتفسير الضيق للنص الجنائي، وما سبق ذكره يعتبر نتيجة من نتائج الأخذ بالمبدأ ولا يقتصر الحظر على التقيد بالتفسير الضيق للنص الجنائي بل يشمل القياس كذلك.
فيجب على القاضي في حالة عدم وجود النص الذي يعاقب على الواقعة المعروضة أمامه أن يحكم بالبراءة مهما كانت طبيعة هذا الفعل.
المطلب الأول: القانون المكتوب كمصدر للتجريم والعقاب:
تعتبر القاعدة القانونية المكتوبة هي مصدر التجريم والعقاب في أغلب الأنظمة القانونية، وهي نتيجة من نتائج الأخذ بمبدأ الشرعية الذي ينص على أنه (لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص) وهذا يعني تحديد القاعدة الجنائية تحديدا دقيقا حتى يكون الجميع على علم بها، وهذا لا يتأتى إلا بصياغتها في قالب قانوني محدد وكتابتها ونشرها بالطرق المتعارف عليها في الأنظمة القانونية المختلفة، ولزاما علينا قبل التعرض بالشرح لهذه النتيجة أن نعرف القاعدة القانونية ثم نتناولها بالتحليل وأن نتعرض لفكرة تدرج القواعد القانونية في القانون الوضعي والشريعة الإسلامية.
تعريف القاعدة القانونية:
(القاعدة القانونية أمر صادر من الدولة بتكليف المواطن بسلوك معين أو الامتناع عن سلوك معين، وإلا تعرض المخالف لجزاء قانوني).
من خلال هذا التعريف نستطيع أن نحدد أن القاعدة القانونية سواء كانت جنائية أو غير جنائية تشتمل على شقين هما التكليف والجزاء، ويقصد بالتكليف إطاعتها أوامرا الشارع بالخضوع لمضمون القاعدة ومن أمثلة التكليف (وجوب إبلاغ السلطات العامة بارتكاب جريمة من الجرائم الواقعة على أمن الدولة في الخارج مادة 84 ق ع مصري ، 398 ق ع لبناني).
ومن أمثلة التكليف بالنهي وهي تعتبر فحوى قانون العقوبات مثال النهي عن السرقة – النصب – خيانة الأمانة وغيرها، هذا فيما يتعلق بالتكليف أما فيما يتعلق بالجزاء فهو نتيجة مترتبة على مخالفة التكليف السابق ذكره ويتعدد الجزاء بتعدد فروع القانون، وبالرغم من تساوي القاعدة الجنائية مع القواعد الأخرى كونها عامة ومجردة وصادرة من جهة تملك حق الإصدار إلا أن لها خصائص عن غيرها من القواعد وهو ما يمهنا في بحثنا هذا وهذه الخصائص هي :
1- تعتبر القاعدة الجنائية من قواعد القانون العام.
2- الأصل أن تصدر هذه القواعد عن طريق السلطة التشريعية وإن صدرت عن جهة أخرى فتعتبر ذلك استثناء، ويجب أن يكون في أضيق نطاق.
3- بما أنها من القواعد الآمرة إذن لايجوز الاتفاق على ما يخالف حكمها.
4- تعتبر القاعدة الجنائية من القواعد المصلحة لسلوك الأفراد لجعله يتلاءم مع السلوك السوي داخل المجتمع.
مالمقصود من القانون المكتوب كمصدر للتجريم والعقاب..؟
يقصد بهذه القاعدة أن النص المكتوب هو المصدر الوحيد للتجريم والعقاب فإذا كان القانون المكتوب لا يوجد به نص يعاقب على الواقعة المرتكبة يجب على القاضي إخلاء سبيل المتهم والحكم بالبراءة لأن عدم وجود نص يعني عدم أهمية هذا الفعل، ولا يشكل خطورة على المجتمع، حيث إن المشرع يحاول حماية المجتمع، وذلك بالنص على كافة الأفعال المستهجنة والتي قد تشكل خطورة على المجتمع.
والتمسك بالنص المكتوب يؤدي إلى حماية حريات الأفراد من تعسف السلطة وبذلك يجب الاقتصار على النص المكتوب واستبعاد العرف والعادة كمصادر مباشرة للقانون الجنائي.
وهذا هو الفرق الجوهري بين قواعد القانون الجنائي وغيره من القوانين، حيث يجب على القاضي البحث في فروع القانون الأخرى، وأن يفصل في القضية الموجودة أمامه حتى في حالة عدم وجود النص، حيث يمكنه الاستعانة بالمصادر الأخرى فقد يجد نصا يعاقب على الفعل المرتكب عن طريق العرف أو مبادئ العدالة أو الشريعة الإسلامية أو القانون الطبيعي ومبادئ العدالة.
كما يقصد بهذه النتيجة ضرورة صدور القانون عن طريق السلطة التشريعية حسب الأوضاع الدستورية لكل نظام، فقد يصدر القانون عن طريق السلطة التشريعية في الدول التي تأخذ بالنظام النيابي، وقد تصدر القوانين عن مجلس قيادة الثورة في الدول التي تعيش في ظل النظام العسكري، وقد تصدر القوانين عن طريق المؤتمرات الشعبية والاتحادات والروابط المهنية في ظل النظام والسلطة التي تملك إصدار القانون هي السلطة العليا والممثل الشرعي والحارس على استقرار وحماية المجتمع من الجريمة.
بالرغم من أن القاعدة العامة هي صدور التشريع من السلطة التشريعية حسب الأوضاع السالف ذكرها إلا أنه نجد العديد من الدول تسمح للسلطة التنفيذية بإصدار تشريعات ،ولكن في حدود سنتحدث عنها فيما بعد .
كم يجب أن تكون نصوص التشريع واضحة وبعيدة عن العبارات غير المحددة المعنى،كما تكون غامضة ،حيث أن الهدف من النص عليها إحاطة الأفراد بالأفعال المستهجنة والعقوبة التي سينالها كل من تسول له نفسه القيام بمثل هذه الأفعال.
ولايقتصر الالتزام بهذه النتيجة على المشرّع بل يمتد إلى القاضي حيث يجب عليه ألا يحكم بالإدانة إلا إذا كان هناك نص يدين المتهم فهو غير مختص بإنشاء جرائم وعقوبات مهما رأى في الفعل المرتكب من خطورة أو اعتداء على حقوق الأفراد والجماعة، بل يقتصر عمله على تطبيق القانون على الواقعة المعروضة أمامه، ولإثبات شرعية العقوبة التي يحكم بها يجب عليه تحديد النص أو النصوص التي تم الاستناد عليها في إصداره الحكم.
كما يجب على القاضي الجنائي الالتزام بالنص المكتوب وهو بخلاف القاضي المدني، وقد سبق توضيح هذا الفرق.
كما أن عمل القاضي قد يتناول (تفسير النصوص الجنائية وتأويلها) فيجب أن يلتزم بالتفسير الضيق، فإذا لم يلتزم قد يقع في المحظور وهو خلق جرائم جديدة نتيجة للتفسير الموسع، ويساهم بذلك في إهدار المبدأ الذي يعتبر من أهم ضمانات الحرية الفردية.
ومن الالتزامات التي تقع على القاضي كذلك تطبيق القانون على الوقائع اللاحقة على صدوره، غير أن هناك العديد من القوانين أوردت استثناء حيث أجازت تطبيق القانون بأثر رجعي إذا كان في صالح المتهم (مثال ذلك المادة الخامسة من قانون العقوبات المصري) ، (المادة 9 فقرة 2 من قانون العقوبات اليمني الجنوبي)، كما أخذ القانون الجنائي التونسي بهذا الاستثناء (مادة 269).
بعد أن حددنا المقصود من القاعدة الجنائية كمصدر للتجريم والعقاب أصبح من الضروري مناقشة المصادر التي تستقي منها هذه القاعدة.