هناك عقوبات أصلية تختلف في أساس الحق الذي تمسه ومن هذه العقوبات الأصلية ثمة عقوبات تمس حق الحياة وهي عقوبة الإعدام،والسجن المؤبد،والسجن، والحبس والغرامة، وكذلك هناك عقوبات التبعية وهي الحرمان من الحقوق المدنية، والحرمان من مزاولة المهن والأعمال الفنية، وفقدان الأهلية القانونية، نشر الحكم بالأدلة، وكذلك هناك عقوبات تكميلية، ومعنى هذا أن العقوبات الأصلية في القانون الليبي هي الإعدام والقطع والسجن المؤبد والسجن والحبس ..
ولكن استهل حديثي عن عقوبة الإعدام.. وكذلك أحكام القصاص والدية.
القصاص :
إذا كان القصاص شرعاً هو عقوبة مُقدّرة تجب حقاً للفرد وتسقط بالعفو أوجبها الشارع الإسلامي في القتل العمد وفي جرائم الاعتداء على ما دون النفس متى أمكن ذلك، فإن القانون رقم (6) 1423 م بشأن القصاص والدية والمُعدّل بالقانون رقم (7) 1430م لم يقرر القصاص إلا بشأن جريمة القتل العمد، أما بالنسبة لجرائم الاعتداء على ما دون النفس فإن قانون العقوبات هي الواجبة التطبيق، فالمُشرّع بتبنيه أحكام القصاص والدية في جريمة القتل راعى ولي الدم وجعل انتقامه من الجاني وشفاء غليله أولى من حق المجتمع فإليه يعود حق القصاص أو تركه إلى الدية في المقابل لا وجود لهذا الحق الخاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس.
فعلى الرغم من أن علة القصاص في النفس قائمة فيما دونها إلا أن المُشرّع الليبي خلافاً لما قرره من دور ولي الدم في جريمة القتل العمد لم يعط أي دور للمجني عليه في تحديد العقوبة التي تترتب على فعل يمثل اعتداء على جسده.
ولأن القصاص هو المقرر في جريمة القتل العمد، فلورثة المجنى عليه حق مُغلب على حق المجتمع وهذا الحق في القصاص يقبل الصلح على مال والتنازل عنه بالعفو ويجري فيه الإرث.
وأن القصاص عقوبة مُقررة ليس لها حد أدنى ولا حد أعلى تتراوح بينهما بمعنى استبعاد كل تقرير عقابــي بشأنها .
فقبل تبني المُشرّع الليبي للقانون رقم(6) لسنة 1423 بشأن أحكام القصاص والدية كانت جريمة القتل تخضع بكافة صورها لنصوص قانون العقوبات التي تتضمن تقريراً تشريعياً إضافة إلى التقرير القضائي المنصوص عليه في المادة (29) من قانون العقوبات الليبي.
حيث نصت المادة(372) من قانون العقوبات الليبي على أن كل من قتل نفساً عمداً من غير سبق إصرار ولا ترصد يُعاقب بالسجن المؤبد أو السجن وقبلها أورد المُشرّع الليبي في حالات معينة تشديد العقوبة فجعلها الإعدام إذا توافرت ظروف سبق الإصرار والترصد أو استعمال مواد سامة.
ونص على عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد في صور القتل العمد المُشار إليها في الفقرة الثالثة من المادة (372) وهي حالة اقتران القتل العمد بجناية أخرى أو ارتباطه بجنحة وأوجب الحكم بالسجن المؤبد في جرائم القتل العمد إذا كان المجني عليه من الأصول أو الفروع.
ونص المُشرّع الليبي على أعذار قانونية منها مخففة ومشددة وكذلك تقرير العقوبة وفقاً لظروف الجريمة وكذلك ظروف الجاني وفقاً لنص المادة(29 عقوبات) إذا استدعت ظروف القتل رأفة المحكمة أن يستبدل العقوبة على الوجه الآتي :السجن المؤبد بدلاً من الإعدام، والسجن بدلاً من السجن المؤبد، مدة لا تقل عن ستة أشهر بدلاً من السجن، وفي جميع الأحوال له خفض العقوبة إلى نصف حدها الأدنى.
فالجريمة واحدة والعقوبة يقدرها القاضي وفقاً لسلطته التقديرية التي تُمكنه من أخذ ظروف الجاني وظروف ارتكاب القتل وملابسات كل واقعة في الاعتبار عند تقديره للعقوبة.
إن هذا التقدير التشريعي والقضائي لا وجود له في القانون رقم (6) لسنة 1423م فنظام القصاص والدية الذي تبناه المُشرّع الليبي يعني وجود عقوبة محددة لايمكن للقاضي استبدالها لأنه عندما يتعلق الأمر بالقصاص أو الحدود لا سلطة تقديرية للقاضي في اختيار العقوبة أو تقدير كنيتها ولا أثر لظروف المجرم أو لظروف الجريمة في تحديد العقوبة التي عادة ما تلعب دوراً كبيراً لدى القضاة عند تقديرهم للعقوبة، فإذا كان القاضي وفقاً لنصوص قانون العقوبات التي أشارت إليها بإمكانه الاختيار بين عقوبتي السجن المؤبد أو السجن، والإعدام أو السجن المؤبد، وبالنزول بعقوبة السجن إلى الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبعقوبة السجن المؤبد إلى السجن.
وأن المُشرّع الليبي .بتبني نظام القصاص والدية قد سلب القاضي سلطته التقديرية في مواجهة جرائم القتل وهجر نظام التقدير العقابي في جرائم القتل إلى عقوبة محددة لا يمكن استبدالها إلا في حالة وجود عفو من ولي الدم.
فعقوبة الإعدام قصاصا ترتبط بإدارة الطرف المتضرر فولي الدم هو الذي يحدد ما إذا كان القصاص يجب أن يُوقع على الجاني أولاً والقاضي ليس له إلا أن يحكم بإرادته فخطورة الجاني مهما بلغت ومهما كانت مهددة للمجتمع لا يمكن أن تسمح بإعدام الجاني عند وجود عفو من أهل الدم.
وحيث أن المادة الأولى من القانون رقم(7)1730 المُعدّل للقانون رقم (6) 1423م نصت على الآتي :
“يعاقب بالإعدام قصاصاً كل من قتل نفساً عمداً وفي حالة العفو ممن له الحق تكون العقوبة السجن المؤبد والدية”.
الدية :
إذا كان المُشرّع الليبي قد وصف الدية بأنها عقوبة في المادة الأولى من القانون رقم (7) 1730 المعدل للقانون رقم (6) 1423 بنصه على أن تكون العقوبة السجن المؤبد والدية وفي المادة الثالثة من القانون رقم (6) 1423 بنصه على أن يُعاقب كل من قتل نفساً خطأ أو تسبب في قتلها بغير قصد بالدية.
ويُقصد بالدية مقدار من المال يؤدى إلى ورثة القتيل كعوض عن الدم المهدور، ولكن ليس معنى هذا أن الدية تعويض مدني للمجني عليه أو المضرور من الجريمة، حيث أنها تعتبر عقوبة جنائية خالصة بصريح القانون رغم أنها تدخل في مال المجني عليه ولا تدخل في خزانة الدولة فهي بديل القصاص ويعمل كلاهما على تحقيق الردع بنوعيه الخاص والعام.
متى تكون الدية عقوبة في حالة القتل العمد..؟
تنص المادة الأولى من القانون رقم (6) لسنة 1423 بشأن أحكام القصاص والدية على أن “يُعاقب بالإعدام قصاصاً كل من قتل نفساً عمداً وفي حالة العفو ممن له الحق فيه تكون العقوبة السجن المؤبد والدية” ويتضح من هذا النص أن المُشرع الليبي قد اعتبر الدية مع عقوبة السجن المؤبد بديلاً عن عقوبة الإعدام في حالة العفو ممن له الحق فيه، ومعنى ذلك أنه لا يجوز للقاضي الحكم بالسجن المؤبد والدية في حالة عدم العفو من ولي الدم، وكذلك لا يجوز له أن يقضي بعقوبة السجن المؤبد فقط في حالة العفو ممن له الحق فيه إذ يجب عليه أن يقضي بعقوبة الدية ذلك لأن عقوبة القتل العمد في حالة العفو هي السجن المؤبد والدية معاً، وأن الأصل في الشريعة الإسلامية أن عقوبة الدية لا تكون في القتل العمد بل حتى في حالة القتل الخطأ أو القتل شبه العمد ولكن يجوز اعتبارها عقوبة في حالة القتل العمد استثناء وذلك إذا عفى ولي الدم عن القاتل وهذا ما أخذ به المُشرع الليبي.
عقوبة القتل الخطأ :
قلنا أن الأصل في الشريعة الإسلامية أن الدية هي عقوبة مقررة في القتل الخطأ، ومصدر هذه العقوبة القرآن الكريم في قوله تعالى :
” ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) .. وقد نصت المادة(3) من قانون القصاص والدية على أنه مع عدم الإخلال بأحكام قانون المرور على الطرق العامة وقانون تحريم الخمر وقانون المخدرات والمؤثرات العقلية يُعاقب كل من قتل نفساً خطأ أو تسبب في قتلها بغير قصد ولا تعمد، كما ورد في سورة النساء الآيتان(91-92).
تحديد عقوبة الدية :
الأصل في الشريعة الإسلامية أن عقوبة الدية ذات حد واحد، فليس للقاضي أن يزيد في مقدارها أو يُنقص منها، فالدية بصفة عامة تُقدر بمائة من الإبل، ولكن هذه العقوبة تختلف من جريمة إلى أخرى بحسب درجة العمد أو الخطأ لدى الجاني، فهناك دية مغلظة في حالة القتل شبه العمد، ودية مخفضة في حالة القتل الخطأ، ويسري التشديد من باب أولى في حالة القتل العمد إذا عفى ولي الدم، ويقع التغليظ في سن الإبل وأجناسها وليس في عددها، وليس لشخصية المجني عليه أو جنسيته أو حالته الاجتماعية أو صفته تأثير في مقدار الدية، فالجميع سواء أمام الله رغم وجود آراء تُفرّق بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم فيما يتعلق بمقدار الدية، وأن المُشرع الليبي خرج على هذا المبدأ ورأى عدم تحديد مقدار الدية بمبلغ معين سواء في حالة القتل العمد أو القتل الخطأ، وترك الأمر في ذلك لتقدير ولي الدم، ونصت المادة(3 – مكرر) من أن قانون القصاص والدية أن يحدد المقدار المالي بما يقبل به ولي الدم.
وهذا المسلك من المشُرع بعدم تحديد مقدار عقوبة الدية يتنافى مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
ولكن على من تجب الدية..؟ ولمن تجب ..؟
تجب الدية في حالة القتل العمد في مال المجني عليه، وبتعدد القتلى، فإذا كان القتل عمداً حدثاً أو مجنوناً فالدية تتحملها العاقلة “المادة(4) من قانون القصاص والدية”، والعاقلة يُقصد بها قبيلة القاتل التي ينتمي إليها، ويرجع مبدأ تحمل العاقلة عبء الدية وما يأتيه أحد أفرادها إلى فكرة تضامن جميع أفراد القبيلة أو الأسرة في المسائل الجنائية، تلك الفكرة التي كانت متأصلة في عادات العرب قبل الإسلام لدرجة أن الشارع الإسلامي لم يشأ أن يغض النظر عنها.
مدى جواز الحكم بالتعويض مع الحكم بالدية :
الدية هي بحسب الأصل عقوبة جنائية تقوم مقام عقوبة الإعدام في حالة القتل العمد إذا عفى أولياء الدم وهي جزاء جنائي مقابل الدم المهدور، وهي تنطوي على معنى الردع والزجر رغم أنها في واقع الأمر مال خالص للمجني عليه.
وهي من هذا الجانب تقترب إلى التعويض منها إلى العقوبة، ولكنها ليست بتعويض على أي وجه، ذلك لأن التعويض يتحدد بحسب ما ينجم عن الضرر من خسارة وهو يختلف من حالة إلى أخرى، أما الدية فليست كذلك، وعلى ذلك يجوز للمضرور من الجريمة أن ينال تعويضاً عن تلك الأضرار وهنا قد يختلف التعويض من حالة إلى أخرى لأن التعويض يجب أن يكون شاملاً لجميع الضرر مادياً ومعنوياً أو مختلطاً بخلاف الدية.
ومن هنا أمكن القول بجواز الحكم بتعويض ورثة المجني عليه عما لحقهم من أضرار مادية أو معنوية بسبب مقتل مورثهم، إضافة إلى الحكم بعقوبة الدية إذا هم عفوا عن الجاني، معنى ذلك أنه في حالة طلب أولياء الدم القصاص من القاتل يجوز لهم طلب التعويض طبقاً للقواعد العامة ولا يُعد ذلك طلباً للدية أو تنازلاً عن طلب القصاص لأن هناك فرقاً بين الدية والتعويض ولا يجوز الخلط بينهما.
فالدية في التشريع الليبي هي الدية الخاضعة لأحكام القانون رقم (6) لسنة 1423 والمعدل بالقانون رقم (7) لسنة 1730و.ر ولا يمكن أن تُعرف بغير ذلك ولا يمكن أن تُكيف على أنها عقوبة ولا أنها تعويض مدني، فهي مقابل مالي يحدده ولي الدم يجب بدلا عن القصاص عند وجود العفو وابتداء في القتل الخطأ يتحملها الجاني في القتل العمد والعائلة والمجتمع في القتل الخطأ أو في حالة كون القتل حدثاً أو مجنوناً.
وبالتالي فإنه بالإضافة إلى العقوبة – جزاء المسؤولية الجنائية التي تخضع لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات والتعويض المدني- جزاء المسؤولية المدنية التي يقدرها قاضي الموضوع ولا وجود له إلا بوجود الضرر والتدبير الوقائي الذي يرتبط بحالة الخطورة الإجرامية أوجد المُشرّع الليبي الدية التي لا تُفرض إلا في حالة القتل العمد عند وجود العفو عن القصاص، والقتل الخطأ والدية لا تجتمع مع التعويض المدني إلا أنها يمكن أن تجتمع مع عقوبة السجن المؤبد ويمكن أن تُفرض منفردة كما في القتل الخطأ..
وأخيرا فإنه من خلال أحكام القصاص والدية الواردة في القانون رقم (6) لسنة 1423 المعدل بالقانون رقم (7) 1430 يتبين لنا أن المُشرع الليبي باستبعاده التقدير العقابي التشريعي أضعف من إمكانية إحداث التناسب بين الجريمة والعقوبة وبإعطائه سلطة تحديد مقدار الدية لورثة المجني عليه تجاهل فلسفة الدية في الشريعة الإسلامية وبعدم نصه على عقوبات تعزيزية تُوقع في حالة القتل الخطأ والإهمال والطيش وعدم الدراية دون عقوبة على الرغم من خطورة ذلك على المجتمع واكتفى بالدية التي تدفعها العائلة.