د الكوني اعبودة
عندما صدر حكم الدائرة الدستورية في موضوع جلسة النواب عام 2014 وردود الفعل التي أثارها توقعت أن المحكمة العليا لابد أن تولى القضايا التي تهم المجتمع بأسره اهتماماً خاصاً لأنها ليست نزاعات ذات طابع فردي ومحدود تنتهى بمجرد صدور الحكم النهائي عادة ؛غير أن الأمور طرحت من جديد ، وعلى خلاف ما توقعت ، بمناسبة مسألة تعويض أضرار الحرب التي صاحبت انتفاضة فبراير . ففي حكمها الصادر في قضية الطعن المدني رقم 254-64بتاريخ 14-1-2020 رفضت المحكمة الطعن المرفوع من شركة تربية كتاكيت لحوم الدجاج والبيض ضد الدولة عن الخسائر التي لحقتها نتيجة “لإعدام أعداد كبيرة من تلك الطيور”، وبذلك أيدت قضاء محكمة الاستئناف المؤيد لحكم محكمة الدرجة الأولى الذى رفض دعوى الشركة ؛ وبنت المحكمة حكمها على أساس عدم وجود نص خاص ولا تكفى قواعد العدالة المجردة لتبرير تلك المسؤولية ، كما أن نظرية تحمل التبعة-او الغرم بالغنم- لا تصلح لتأسيسها لأن هذا النوع من المسؤولية لم يقره المشرع ولم يرده!! وهكذا حاولت المحكمة قفل كل الأبواب أمام طالبي العدالة في هذا النوع من الدعاوى: ولا أعتقد أن الشركة -ولا المواطن العادي- قد اقتنع بهكذا نهاية لنزاع قضائي استغرق اكثر من خمس سنوات . من جهة إن التعويض عن أضرار الحرب المعنية كانت محل اهتمام المشرع على كافة المستويات ولا يقف الأمر عند القرارات التي أشار إليها الحكم و التي استندت إليها الشركة وهي القرارات 112-372-668-2013، وإنما تجسد ذلك أساسا في قانون العدالة الانتقالية الذى لم يشر إليه الحكم وبالعودة إلى هذا القانون نجد أن السلطة التشريعية بوضعها القانون رقم 29-2013 الذى حل محل القانون رقم 17-2012 بشأن العدالة الانتقالية أقر بمسؤولية الدولة من حيث المبدأ عن تعويض الضحايا والمضرورين ومهما كان نطاق تطبيقه فإن القياس في نطاقه جائز بحسبان أن الأمر لا يتعلق بشأن عقابي أو ضريبى! ومن جهة أخرى ، وعلى افتراض أن ما ذكره الحكم من عدم وجود نص خاص كان صحيحا ،لأن القواعد العامة يمكنها تأسيس هذا النوع من المسؤولية خاصة وأن المادة الأولى من القانون المدني في تحديدها لأصول القانون كانت من المرونة بما كان يسمح للقاضي بإيجاد الحل العادل ولو في حالة غياب النص التشريعي ومبادئ الشريعة والعرف وذلك بإستلهام مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة ! ومن جهة ثالثة ، أن اجتهاد المحكمة العليا السابق وما خوله لها قانونها من صلاحية وضع المبادئ الملزمة في حالتي الفراغ التشريعي أو الغموض التشريعي كفيل بسد الفراغ المزعوم : فإذا كان المبدأ هو قيام المسؤولية المدنية على الخطأ واجب الاثبات(مادة 166مدنى )،فإن من صور المسؤولية ما يقوم على خطأ مفترض أو مفترض ؛من ذلك ما يهمنا هنا مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه ( مادة 177مدنى)ومن المشاركين فى الحرب من هو تابع للدولة حقيقة أو حكما وهو شأن ما يسمى “القوات المساندة”ومجموعات الثوار ” وهي مسألة لم يتطرق لها الحكم!وعلى افتراض أن المادة 168(المتعلقة بدفع المسؤولية لوجود سبب أجنبي مثل القوة القاهرة أو فعل الغير غير المشروع ) تنطبق كما قالت المحكمة -وهو مايحتاج إلى تدقيق الوقائع كما عرضت أمام محكمة الموضوع ولا يتوافر في حكم المحكمة العليا ما يساعد على ذلك ،خاصة وأن المحكمة الموقرة ذكرت عبارات غريبة(ثورة فبراير أو ثورة فجر ليبيا أو هذه الحرب الطاحنة في ليبيا )!! وأخيرا ، إن البحث عن أساس لتأصيل الدعوى هنا لا يجب أن يقف عند التشريع الداخلي ،بل يجب أن يشمل الاتفاقيات التي صادقت عليها ليبيا بالنظر إلى المبدأ الذى وضعته الدائرة الدستورية في شأن سمو الاتفاقية على التشريع ! وغني عن البيان أن عددا من تلك الاتفاقيات تحمى حق الملكية وتقرر الحق في الأمن ، وبالتالي فإن التعويض ليس طلبا عاريا عن كل أساس .
خلاصة القول .أن التعويض عن أضرار الحرب مسألة لا تهم أطراف الدعاوى المرفوعة أو التي سترفع. وإنما تتعداهم إلى المجتمع بأسره ولعل قراءة مواثيق المصالحات المحلية تؤكد هذا الأمر.. وهو ما يتطلب من المحاكم عموما والمحكمة العليا على وجه خاص وزن الأمور بدقة كافية ومن مختلف الزوايا للوصول إلى الحل العادل لاسيما في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا .وذلك يتطلب من المحامين القيام بمهامهم بكل مسؤولية وأمانة أليس الحق يعلو ولا يعلى عليه وأن ليس بعده إلا الضلال! ولحسن الحظ أن هذا الحكم هو من أحكام الوقائع وليس من أحكام المبادئ وهو ما ينحصر في القضية التي صدر فيها كما أن إمكانية العدول عن هكذا موقف متاحة بمناسبة طعون قادمة .وهو ما يمنع تكرار “القضاء والقدر القضائي” .