شهدت نهاية العشرية الأولى من هذا القرن، موجة من انضمام شباب ليبيين إلى حركات جهادية للزج بهم في أعمال انتحارية في عدة دول مثل العراق وافغانستان، ومن أبرز تلك الحركات ما يعرف بتنظيم القاعدة، وهو منظمة متعددة الجنسيات تأسست في الفترة من 1988 إلى 1990م، تدعو إلى الجهاد الدولي، وهاجمت القاعدة أهدافا مدنية وعسكرية في مختلف الدول، أبرزها هجمات 11 سبتمبر 2001م نجم عن ذلك إعلان أمريكا بشن الحرب على الإرهاب.
وتعتمد القاعدة على الهجمات الانتحارية والتفجيرات المتزامنة في أهداف مختلفة يقوم بها أعضاء التنظيم بعد خضوعهم لتدريبات في بعض الدول من بينها افغانستان والسودان ومناطق أخرى، وتهدف القاعدة وبعض الحركات المنبثقة عنها إلى إنشاء خلافة إسلامية وهي تصنف كمنظمة إرهابية من قبل مجلس الأمن وعديد من دول العالم.
وعقب العدوان الأمريكي على العراق عام 2003، تواترت الكثير من الأخبار عن تفجير شباب ليبيين أنفسهم في العراق، واختفاء شباب آخرين ممن انقطعت أخبارهم عن ذويهم حتى اليوم، وتباينت المعلومات حول كيفية التحاقهم بهذه التنظيمات وظروف سفرهم، وفي هذا التقرير كانت لنا محاورات مع بعض ممن اقتادتهم الظروف لخوض هذه التجربة، وتشير الكثير من التقارير والدراسات إلى أن هناك دوافع نفسية واجتماعية واقتصادية ومشاعر الإحباط واليأس التي تدفع بالشباب إلى اتخاذ قرار الانضمام إلى الحركات الجهادية المتطرفة إضافة إلى ما تنتهجه وسائل الإعلام من لعب على أوتار الدين والقومية.
( ن.أ. م) البالغ من العمر 36 عاما، شاب ليبي تورط في الانضمام إلى حركة تنظيم القاعدة فرحل إلى العراق خلال العام 2008، كان يبلغ من العمر وقتئذ 24 عاما، وساهمت بعض الظروف في تسهيل عودته، بدأت تجربته عبر رحلة طويلة من ليبيا إلى سوريا ومنها إلى العراق لتلقي به الأقدار بين قضبان سجونها، ثم الإفراج عنه وإعادته إلى ليبيا ليبدأ حياة طبيعية ويتحدث عما شهده بكثير من الأسف والندم، فيقول حول هذه التجربة : ذهبتُ إلى العراق قاصداً الجهاد ومقاتلة المحتلين بعد أن شاهدتُ في القنوات ما يحدث هناك من احتلال، كنتُ قد بحثتُ عبر شبكة الانترنت عن المواقع الجهادية، وكتبتُ إليهم رسائل حول رغبتي في الذهاب للجهاد، وطلبوا مني اللقاء مع شخص اسمه أبو عبدالله حيث التقيت به وحدثني عن الجهاد وقدّم لي ” سي ديهات” عن فضل الجهاد وأقوال المشايخ والعلماء وأحاديث الرسول وعن الشهادة والفوز بالجنة ونساء الجنة، وقتها لم أكن أعرف شيئا عن الدين وكل ما قاله لي ترسخ في عقلي وصدقته وأصبحت في أقصى درجات الحماسة، وكنتُ أعاني من ظروف عائلية سيئة أحاول الفرار منها وأشعر بأنه غير مرغوب في وجودي، فقد كنتُ عاطلاً عن العمل ورسبتُ في الشهادة الثانوية لمدة عامين، وأنا الابن الرابع من بين ستة أبناء (أربعة أولاد وبنتان) انفصل والداي بالطلاق، تزوج والدي وتركنا مع والدتي في ظروف مالية سيئة، تورط أخي الأكبر في قضية مخدرات أدخلته السجن، وتعثرتُ أنا في الدراسة حاولت العمل في محل لبيع الخضار لكن المرتب كان قليلاً فتركته. ولهذا طلبت من (أبو عبد الله) الإسراع في أتمام إجراءات سفري إلى العراق فوعدني بتسهيل ذلك وبعد أيام قدم لي جواز سفر باسمي وتذكرة سفر إلى سوريا، هناك التقيت بأمير التنظيم في حلب فقام باحتجازي في بيت مع أشخاص من ليبيا والمغرب وتونس لمدة أسبوعين وكان في كل يوم يوجه إلىّ العديد من الأسئلة حول ظروفي الاجتماعية وأسماء عائلتي وأقاربي وأصدقائي، فهمت فيما بعد أن هنالك عملية تقصّي عني يقوم بها أعضاء التنظيم في ليبيا قبل وثوقهم بي، ثم بعد ذلك انتقلنا إلى مدينة الرقة متجهين إلى العراق وسلموني بطاقة هوية مزورة تحمل اسم توفيق ودخلنا إلى العراق عن طريق مهرب في شاحنة بضائع أنا وثلاثة أشخاص مع السائق.
كان بانتظارنا شخصان أحدهما من اليمن والآخر عراقي، أخذا منا جوازات سفرنا ومشينا سيرا على الأقدام طوال الليل حتى وصلنا إلى مكان قريب من الأنبار حيث أخذتنا سيارة إلى بغداد، كنتُ أتوقع أنه سيتم تدريبنا على القتال لكي نقاتل الأمريكان الغزاة وندافع عن أنفسنا وعن بغداد، وكنت بانتظار أن يضعوننا في معسكر تدريب، ولكن الأمير الذي استضافنا في أول يوم وكان اسمه أبو أيوب طلب من رفيقي المغربي أن يستعد في صباح اليوم التالي لتنفيذ مهمة وكان شابا متعلماً وقال لي أثناء رحلتنا في الشاحنة أنه مهندس ويتحدث ثلاث لغات، وسمعته يجادل الأمير ويقول له أنه لا يرغب في تفجير نفسه في مكان فيه أبرياء ولكنه يفضل قتال الأمريكان في جبهة الحرب لكن الأمير هدده بإطلاق الرصاص عليه وفهمنا أنه يجب علينا تنفيذ الأوامر ولا مجال للتراجع، في صباح اليوم التالي نفذ الشاب المغربي المهمة بتفجير نفسه في مفترق طرق بحي الدورة في بغداد.
وبعد أسبوع أخبروني أنه جاء دوري لنيل الشهادة، وسألني الأمير إذا كنت مستعداً لنيل هذا الشرف ولكنني في الحقيقة كنتُ متردداً ومرتبكاً وخائفاً من العقاب فكل الذين يرفضون القيام بهذه المهمة تتم تصفيتهم فلا حاجة لوجودهم في التنظيم ولا يمكن إعادتهم إلى بلدانهم بعد أن اكتشفوا أسرار ومواقع التنظيم لذلك لم استطع الرفض ولكنني فكرت في الهرب، وفي الصباح فوجئنا بهجوم كاسح على مقرنا من القوات العراقية مدعومة بقوة دولية، وقام الأمراء بمحاولة صد الهجوم، كانت معركة عنيفة سقط فيها الكثير من الأعضاء، وقتل الأمير أبو أيوب وأصبت أنا بجراح وشظايا في الكتفين والساق بعدها اقتحمت القوات العراقية المكان ونقلوني مع بعض الجرحى إلى مستشفى اليرموك، وقاموا بالتحقيق معي ثم وضعوني في السجن نهاية عام 2008 وكانت المعاملة سيئة جداً ونتعرض للتعذيب بهدف الحصول على المعلومات والاعترافات، وفي عام 2010 تم تسليمي إلى القوات الأمريكية وبعد أن تأكدت المخابرات الأمريكية من عدم تورطي في أي عمل إرهابي خاصة وأن سجلي يقول بأن قضيت وقتاً قصيراً جداً في العراق ولم أشارك في أي أعمال وبهذا قرروا إرسالي إلى ليبيا وتمت مخاطبة السفارة الليبية في العراق من أجل تسليمي إليهم، وتمت إعادتي إلى ليبيا لقضاء عقوبتي في السجون الليبية إلى أن تم الإفراج عني خلال العام 2011.
ويتحدث (م. ح. أ) 52 عاماً عن تجربة أخرى مشابهة تمتد على مدى ربع قرن مابين تنظيمات جهادية وسجن غوانتنامو، فيقول: “في سنة 1995 كانت وجهتي إلى اليمن للتفقه أحكام الشريعة الإسلامية وكانت نقطة العبور لليبيين عن طريق السودان للاستقرار بعض الوقت ثم الرحيل إلى اليمن بجوازات سفر مغربية، أقمنا بمسجد الصافية عند الشيخ مقبل الذي يتوافد إليه الليبيون بكافة معتقداتهم. في ذلك الوقت مارست السلطات الليبية ضغوطات قوية على السودان لتسليم كافة رعاياها الموجودين بالأراضي السودانية وأنكرت السودان ذلك فأرسلت ليبيا فرق تفتيش، في غضون ذلك وضعتنا الحكومة السودانية أمام خيارين إما السفر قسراً إلى الباكستان أو أوروبا فاخترت الباكستان، ثم انتقلت إلى افغاستان عام 1996 التي تشهد هي الأخرى حالات الصراع والنزاع المسلح بكافة أشكاله وأنواعه، وفي طريقي إلى كابول انفجر بي لغم نجم عنه بتر رجلي اليمنى وبقيت شبه مقعد حتى أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث حادثة تفجير أبراج التجارة فأحسست بخطر يحدق بي ورجعت للباكستان قبل الغزو الأمريكي بخمسة عشر يوما وفي ذلك المكان قبضت علينا القوات الأمريكية وتم ترحيلنا لمعتقل غوانتانامو، وكان المفترض أن يتم الإفراج عني سنة 2007 وفق قوائم تدريجية وبعد الإفراج عن بعض الأشخاص وإخلاء سبيلهم التحقوا بجماعات متطرفة بالعراق وغيرها من الدول كردة فعل عن سجنهم، مما أدى إلى إيقاف الإفراج حتى عام 2016، وطوال هذه المدة كنا نتعرض لسوء المعاملة والتعسف حتى دخلنا في إضرابات لأجل نيل أبسط الحقوق وعندما قررت السلطات الأمريكية إخلاء سبيلي ألزموني بالعودة إلى ليبيا فرفضت كون البلد يعيش حالة انقسام ونزاعات مسلحة فتعرضت للضغوطات لأجل الموافقة ونزعوا مني الرجل الاصطناعية وكل ذلك لأجل الموافقة على عودتي إلى ليبيا، رفضتُ ذلك بشدة حتى نقلوني للسنغال وأقمت فيها مفرجاً عني بشروط فكونت فيها علاقات طيبة وأسست شركة تجارية وقررت الزواج، فاتصلت بي السفارة الليبية وطلبت مني زيارتها وكذلك طلب مني العودة إلى ليبيا استغربت هذا الإصرار ورفضته لأكثر من مرة حتى أنه تم اقتيادي إجبارياً ووعدوني بإخلاء سبيلي بمجرد نزولي إلى أرض المطار. هبطت الطائرة بمطار طرابلس واستلمني الأمن وبقيت رهن الحبس حتى أواخر شهر ديسمبر من العام 2019.”
وفي معرض حديثه عن تفجيرات أبراج التجارة بنيويورك، سألناه عن تدبير العملية وعلم المخابرات الأمريكية بها مسبقاً فنفى ذلك مُجيباً بأنه من المتوقع وقوعهم ضحية خدعة، فربما تعلم المخابرات بتخطيط التنظيم لاختطاف طائرة أو أكثر ولكنها تجهل خطة التفجير، إذ دارت الأحاديث بالمعتقل عن تقدم مسؤول ملف التنظيم بالسي آي إي بتقرير عن ذلك لإدارته فعملت على تسخير الخطة لمصلحتها، فَبِوقت سابق قبضت السلطات الهندية على (مسعود أزهر) فقامت حركة الأنصار باختطاف طائرة هندية وأنزلتها بقندهار، متفاوضةً مع السلطات الهندية حتى أخلت سبيله واستُرجعت الطائرة، فهكذا ظن الأمريكان الذين قبضوا على (عمر عبدالرحمـٰن) القيادي بالتنظيم فتهيئوا لزرع مخبرين بالطائرات ليتعرفوا على مواطن التنظيم وأفراده وقواته من خلال تكرار نفس العملية والتفاوض لأجل الإفراج عن عمر، ولكن حدث الذي لم يكن بالحسبان.
وبعد اشتعال فتيل الحرب التي دامت أكثر من عشر سنوات أعلنت الولايات المتحدة مقتل بن لادن دون إظهار صورته فأجابنا بأن ذلك حقيقة وان كان الفضل في تحديد مكانه يعود للمخابرات الباكستانية لا الأمريكية. أسامة بن لادن له أسرة تقيم بالسعودية وأسرة تقيم معه بالباكستان بالقرب من ثانوية عسكرية زارت حَيِّهم لجنة مكافحة الأمراض لإجراء تطعيمات للأطفال وتأخذ خِفيةً عينات من هؤلاء الأطفال فوجدت تطابق البصمة الوراثية لطفل مع بصمة ابناء بن لادن بالسعودية، فوضع هذا الطفل تحت المراقبة إلى أن حُدد مسكنه وأُبلغت به المخابرات الأمريكية فقامت باستهداف البيت ومن فيه فمات حتى الأطفال والنساء.
الخاتمة..هذه هي نهاية التطرف والمغالاة في دين الوسطية المُنزّل من رب رحيم على نبي الرحمة، رحمة للعالمين لا لتكفيرهم وترهيبهم وتفجيرهم . فإن راجعنا القرآن والسنة لم نجد لما ذكرنا أصلاً عليه يستند ولا به يقوم . هذه القاعدة وما زامنها من تنظيمات دالت وزالت وما تلاها قد زال، بعدما سَخّرته المخابرات الأجنبية وفق مصالحها حتى انقضت فقضت عليهم.
ومن خلال هذا التقرير ندعوا جهات الإختصاص من تعليم وشؤون إجتماعية وأوقاف وثقافة للنظر بإمعان حول أسباب إنجرار بعض الشباب خلف هذه التيارات وإيجاد السبل الكفيلة لمواجهة هذه الظاهرة الناسفة بأمن المجتمع وسلامة المواطن .
وكذلك نهيب بالحكومة الاهتمام بملف المعتقلين الليبيين بالخارج ، المقبوض عليهم على خلفية دخولهم للعراق بطرق غير شرعية، إذ تذكر تقارير حقوقية وإعلامية أن عدد الليبيين المفقودين بالعراق يقدر بنحو 46 شخصاً من مختلف المدن و 19 شخصاً بسجون الناصرية والسليمانية وسوسة والتاجي والرصافة وبغداد والكاظمية والموصل بينهم 5 محكوم عليهم بالإعدام، كما أن المعتقلين لايزال موضع جدال في الحكومة الأمريكية ويقيد به 13 معتقلاً ليبياً اعتقلوا بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
علي أزبيدة