المستشار: عبدالحكيم أبوحميدة
هذا التعقيد ناتج عن وجود ازدواجية شاذة في التفكير تعكر صفوه فتحرمه من الاهتداء إلى مسارات التصحيح وصولا إلى الغايات من أقرب المسالك . هذه الازدواجية هي في أحد طرفيها أشبه بطفل ” منغولى ” يحمل من الصفات والطباع ما يكفي لرسم إطار زمني محدد لحياته ويجسد قصوره الكبير على الإدراك وبالتالي يكون تطويره ضرباً من ضروب المستحيل .. وفي طرفها الآخر كحمل خادع ” غير حقيقي ” يرسم له أبوه مستقبلاً حالماً ويحتفظ له بين يدي الوهم بفيضِ من الوعود .
إن هذا الوضع يقودنا إلى استفهام أكثر تعقيداً وهو : كيف يمكن تحقيق مستهدفات العدالة دون إعادة النظر في حياكة نسيجها الذي بدأت خيوطه تتلف بحكم جملة من المتغيرات على مختلف المستويات تستدعي سرعة التحديث والتطوير ؟! .
وهنا نريد التأكيد مرّة أخرى على ضرورة الاهتمام قبل كل شيء بالقاضي ” ثقافة وتأهيلاً ” لأنه علاوة على كونه العنصر الأساسي في عملية التحديث والتطوير فهو العنصر الأكثر صعوبة في الاستجابة لتلك المتغيرات وهذا بلا أدنى شك عمل كبير وشاق ويحتاج إلى مهارات – غير متوفرة – للقيام به وذلك بسبب تلك الإزدواجية التي يجب العمل على صهرها في بوتقة واحدة لتفادي السقوط في الحلقة المفرغة والاسهام إلى حد كبير في النأي بما يصدره القاضي من أعمال عن مظنة النقد والتأويل .
وهنا تظهر بؤرة انعدام الوزن التي يجب تحديد عمقها ثم العمل على ردمها لنعود بعدها على الجهات المختصة بإجراء ما تقدم من أجل إعادة تقييمها على مختلف المستويات وعندها سنكتشف وبكل أسف أننا كنا نسير في غير الاتجاه الصحيح .
ما نقصده هو أن جزءاً كبيراً من المشكلة موضوع هذه الإشارة العابرة يمكن القضاء عليه بوضع خطة شاملة لإعادة التقييم لكنها يجب أن تكون خطة محايدة !؟ .
لن نريد الإطالة في هذه المقدمة وما نود قوله هو أننا لم نعد بحاجة إلى فكر تقليدي يحاول بما يرتديه من حلل أن يقنع الآخرين بأنه حجر أساس في استراتيجية البناء ومنهجية الإصلاح ، كما أننا و في ذات الوقت لا نريد طرحاً مثالياً يرسم صورة المستقبل بمعزل عن الواقع ، ما نريد هو : إعمال أساس التفكير العلمي الذي يقضي بدراسة الواقع و الانطلاق منه بمنطلق رياضي استنباطي على نمط البحث العلمي الحديث “ونظرياته في البحث والاستقراء ” .
فمعالجة أية مشكلة تقتضى معرفة أسبابها أولاً ثم مواجهتها بالطرق الكفيلة لاجتياحها فإن لم يكن ذلك ممكناً فلا أقل من محاصرتها والعمل على كشف مستورها ذلك لأن حسن التدبير يحتّم مواجهة الذات وتصحيح الخطى لأن الحل ” الترقيعي ” علاوة على عدائيته المفرطة لعنصر الزمن فهو يشكل إهداراً غير محتشم للوقت وبالتالي فإن الإصرار على الاستمرار فيه يعد عبثاً (غير مسموح به) ولعل النتائج التي يسفر عنها تطبيق أي أسلوب من أساليب المعالجة هي خير كاشف على نجاعة الأسلوب فمتى طغت الايجابيات عُدّ ذلك دفعاً تلقائيا نحو الأحسن وإذا ما كان العكس فإن الحكمة تنطق بضرورة التنحي عنه وهجره .
وهكذا الحال بالنسبة للمتراكم فلجان القضاء على هذا “الغول” التي شرع في تكوينها منذ سنوات مضت لم تفلح في تحقيق غايتها بدليل أن المتراكم قد عاد للتنامي من جديد بعد أقل من ثلاث سنوات – عدد من الزملاء هم على قدر كبير من الإحاطة بأبجدية هذه الأزمة وبداخلهم رغبة عارمة في قص جذور هواها من الأعماق ولكن عدم قدرتهم على المواجهة وانعدام روح المبادرة لديهم هو أمر بحد ذاته يحتاج إلى بعث جديد !! . (( أي يجب أن يكون من ضمن برنامج التأهيل وتنمية المهارات ))
– عندما نتكلم عن أزمة المتراكم فلا نعني بذلك قضاة فقط بل نعني عملية قضائية بأكملها ومتى كان لكل جزء من هذه العملية شأن يغنيه – فإن البصيرة المدركة يجب أن تنفذ إلى كل مكوّن من مكوّنات العملية القضائية على حده ؛ ومن خلال ذلك – حسب وجهة نظري المتواضعة – يجب أن نبدأ !! .
فمن من رؤساء إدارة التفتيش وفروعها المتعاقبين وأعضائها و رؤساء النيابات والمحاكم على مختلف درجاتها قادته الأزمة إلى بساط البحث وأرّقه توجّع هذا الجسد فأغاثه أو استغاث له ؟ ! . يقولون دائماً بأن المتراكم يشكل أزمة قضائية في العديد من الدول الأخرى وكأن ذلك هو التبرير المقنع للإبقاء على ديمومة هذه الازمة في قضائناً ويعزون أسبابه إلى عدد من الإشكاليات التي لم يتم التصدي لها إلى حد الآن .
-فالخبرة القضائية و الإعلان ” على سبيل المثال ” باعتبارهما أهم هذه الأسباب وأكثرها مدعاة للتدخل التشريعي والقضائي !! لم تجر بشأنهما أية إصلاحات تشريعية أو قضائية خلال الفترة الماضية فكيف يكون من المتصور القضاء على المتراكم من القضايا لهذين السببين من خلال تشكيل لجان ” القضاء على المتراكم ” دون إجراء تلك الإصلاحات ؟! .
هذا السؤال أو الوضع بالمعني الأصح يدعو للحيرة والاستغراب فهذه الآلية (لجان القضاء على المتراكم ) علاوة على أنها تفتقر إلى الأساس العلمي ، فهي تترك العملية القضائية تسير على هواها ردحاً من السنين ليزداد عدد القضايا وتتجدد الحاجة إلى بعثها من جديد وهكذا دواليك وعوداً على بدء فإنّ القضايا التي لم يتم الفصل فيها لعدم ورود تقرير الخبرة المطلوب ستظل على حالها من حيث عدم الجاهزية نظراً لما تشكله الخبرة من أهمية في تكوين عقيدة المحكمة وأثرها في الإثبات ومن ثم تحديد النصوص القانونية التي تحكمها كما أن عدم إعلان الخصوم في الحالات التي يشترط القانون فيها ضرورة الإعلان الشخصى سيبقي الدعوى أيضاً على حالها بسبب عدم انعقاد الخصومة أصلاً وبالتالي فإن تشكيل لجنة أو أكثر للقضاء على المتراكم لن يؤدي إلى الفصل في هذه القضايا فإذا ما تم ذلك فإن الأمر لا يخرج عن أحد تأويلين : الأول : إما أن الخبرة و الإعلان – بحسب الأحوال – ليسا سبباً للإبقاء على الدعاوى دون فصل وهنا يكون المتراكم مؤشرا ًعلى ضعف أداء القضاة الذين تولوا نظر تلك الدعاوى وأجّلوا الفصل فيها لتلك الأسباب وهذا بدوره وضع يحتاج إلى تصحيح وإعادة نظر كان يجب أن يكتشفه برنامج التفتيش الدوري والفني على عمل القضاة خلال السنة القضائية وتتخذ بشأنه الإجراءات اللازمة دون تعقيب كما أنه يعتبر مؤشراً على أن ثمه قصوراً في أداء تصدر عن الجهات المختصة بالإعلان يجب متابعته والقضاء عليه الثاني : أن الخبرة والإعلان سببان جوهريان بل مانعان من الفصل في الدعاوى ومن ثم فإن لجنة القضاء على التراكم لن تستطيع الفصل فيها فإذا ما فعلت فإن ذلك معناه حدوث شرخ وتصدع كبير في نظام ” السوابق القضائية ” لأنه سيؤدي إلى صدور أحكام غير صحيحة بالإضافة إلى أن القضايا في هذه الحالة سيتم نقلها من درجة إلى درجة أخرى من درجات التقاضي بسبب الطعن فيها من قبل الخصوم وبذلك تكون النتيجة هي مجرد جهد إضافي يعتمد الكم مع إهمال كامل للكيف.
إن القضاء على المتراكم يتطلب بشكل ملح وعاجل إعتماد المنهج التحليلي للمشكلة الذي يتضمن بيان الأرقام والإحصائيات والرسوم البيانية للقضايا المتراكمة خلال السنوات الماضية وتصنيف أسباب عدم الفصل فيها واقتراح حلول جذرية متكاملة على مختلف الجوانب فمثلاً على الجانب التشريعي ” النصي ” اقتراح التعديلات اللازمة في القوانين ذات العلاقة مثل قانون المرافعات المدنية والتجارية والقانون التجاري وقانون الإجراءات الجنائية وقانون الرسوم القضائية الذي يفرض رسوماً زهيدة تدفع بعدد كبير من الأفراد إلى رفع دعاوى لمجرد الكيد بخصومهم بالإضافة إلى ما شهده المجتمع من متغيرات اقتصادية مختلفة تستوجب إعادة النظر في هذه القوانين وعلى الجانب الهيكلي إجراء تحوير في ( القيادات المديرة للأجهزة والهيئات وفي أسلوب عملها ) ومدُها بالعناصر الفنية القادرة على إجراء الدراسات واستخلاص المؤشرات من خلال ما تجهزه من احصائيات . وعلى الجانب الموضوعي إعادة النظر في الخبرة القضائية من حيث ( مبرراتها – كيفية أدائها – تنظيمها ) أما الإعلان فبالوقوف على أسبابه عدم الإعلان وعلاقة القطاعات الأخرى بها و إشراك المحكمة العليا في إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال إعادة النظر في بعض المبادئ المتعلقة بهذا الموضوع ) . وعلى الجانب الإجرائي تفعيل التفتيش القضائي على مختلف مستوياته وبكامل آلياته وبشقيه الفني والتأديبي ومنحه استقلالاً كاملاً وذلك بعد ضمان اعتماد برامجاً وخططاً تستهدف متابعة الأداء وتقييم عطاء القضاة بشكل موضوعي ، كما أن الأمر يستوجب إزالة الخلط القائم ما بين القضاء وباقي أعضاء الهيئات القضائية والذي يؤدي في واقع الحال إلى وجود معايير مزدوجة نظراً لاختلاف طبيعة المهام بين الهيئات القضائية المختلفة وقد يتطلب هذا الأمر جعل قانون نظام القضاء قاصراًً على القضاة فقط وهنا يجب أن يتم فصلهم عن غيرهم من العاملين في بقية الإدارات ” الهيئات القضائية ” .
– ومن جانب آخر فإن هناك جملة من الإجراءات العملية التي يمكن القيام بها لمواجهة جزء كبير من المتراكم وهي على سبيل المثال :
1 – الأخذ في الاعتبار أن الدعوى العمومية ونقصد بذلك الدعوى الجنائية تبدأ في مرحلة سابقة على المحاكمة وذلك بداية من مراكز الشرطة مروراً بمرحلة التحقيق أمام النيابة العامة وفي كثير من الأحيان يتم الدفع بهذه الدعاوى إلى المحكمة دون استيفاء عناصرها وهذه الحالة تتطلب إجراء المعالجة في مرحلة مبكرة قبل أن تدخل الدعاوى في حوزة المحكمة
2 – في الدعاوى المدنية يجب أن تتصدى المحكمة للدفوع الشكليه منذ الجلسة الأولى للدعوى والقضاء إما برفضها أو بعدم قبولها بحسب الأحوال كما هو الحال في الدعاوى التي تستلزم عرض النزاع على اللجان الشعبية للمحلات قبل رفع الدعوى أو في حالات الدفع بعدم الاختصاص .
3 – التأكد من استيفاء صحف الدعاوى للشروط الجوهرية اللازمة لها فإذا ما جاءت قاصرة عن أي منها قضت المحكمة برفضها .
4 – ممارسة المحاكم لصلاحياتها القانونية في الانتقال إلى محل النزاع لإجراء المعاينة اللازمة بمعرفتها دون الحاجة إلى إجراء خبرة بالخصوص إعمالاً بمبدأ أن المحكمة هي الخبير الأعلى في الدعوى .
5 – عدم قبول المحاكم للدعاوى العقارية المتعلقة بالملكية إلا بعد تقديم المدعي لكافة المستندات الدالة على الملكية للمحكمة منذ الجلسة الأولى .
6 – تفادي المحكمة التأجيلات غير المبررة مثل التأجيل للإطلاع ومد أجل النطق بالحكم لأكثر من مرة والعمل على إيداع الأسباب في جلسة النطق بالحكم .
7 – إشراف القضاة المباشر على يومية الجلسات والتأشير عليها بما يفيد ذلك .
8 – جعل حضور الدورات التدريبية و التأهيلية عنصراً من عناصر تقدير درجة الكفاية على الأقل بالنسبة للقضاة الحاصلين على درجة وسط .
9 – العمل الفوري على تبني القضاء التخصصي وإلى أن يتم ذلك تُوجه الجمعيات العمومية للمحاكم بأن تأخذ في الاعتبار عند توزيع العمل أداء القضاة خلال السنة القضائية بحيث لايتم نقل الذين لديهم عدد كبير من المتراكم إلى دوائر أخرى إلا بعد الفصل فيها .
10 – عقد ورش عمل أو ندوات بالمعهد العالي للقضاء بالتنسيق مع المعاهد النظيرة أو إدارات التفتيش في الوطن العربي للاستفادة منها في تطوير عمل المفتشين القضائيين الذين يتولون التفتيش على أعمال القضاة .
وأمام كل ما تقدم فإن ما بذلته اللجنة الشعبية العامة للعدل بعد فصلها عن قطاع الأمن العام من دعم مادي ومعنوي لرجال القضاء كفيلُُُ بجعلهم في ظروف أكثر ملائمة لبذل المزيد من العطاء وتحقيق أفضل معدلات الأداء مما يجعل استمرار موضوع المتراكم يخرج عن نطاق الأزمة على الأقل في جزء كبير منه ليكون ظاهرة تحتاج إلى تفريد أسبابها ووضع حل مناسب لكل منها على حده .
انين أسماها قوانين أساسية.