تنص المادة( 16) من نظام روما الأساسي على أنه بالمحكمة الجنائية : (لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة أثنى عشر شهراً بناءً على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها) .
نستخلص من هذا النص ، أن مجلس الأمن الدولي يجوز له أن يطلب إلى المحكمة الجنائية الدولية وقف التحقيق أو إرجاء المحاكمة ، وفق الضوابط التالية :
ـ ضرورة أن يكون الطلب إلى المحكمة مبيناً على قرار يصدره المجلس بهذا الشأن .
ـ أن يتصرف المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبعبارة أخرى ، يجب أن يرى المجلس أن التحقيق أو المحاكمة محل الإرجاء من شأن الاستمرار في أي منهما أن يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين .
ـ ينبغي أن يكون إيقاف التحقيق أو المحاكمة لمدة محدودة لا تزيد على 12شهراً غير أن المادة 16تسمح للمجلس بتحديد الطلب بالشروط ذاتها لعدد غير محدد من المرات .
وتجدر الإشارة إلى أن نص المادة 16من النظام الأساسي محل البحث أثار جدلاً كبيراً في محيط الفقه الذي يتنازعه في هذا الشأن رأيان ، أحدهما يؤيد منح مجلس الأمن رخصة إرجاء التحقيق أو المحاكمة ، وآخر يعارض ذلك .
وهكذا تباينت أيضا مواقف الدول التي شاركت في مؤتمر روما 1998 الذي عنى بإنشاء المحكمة الجنائية ، وذلك حسب انحيازها للرأي الأول ، أو دعمها للرأي الثاني .
والحجة الرئيسة التي يسوقها أنصار الرأي الأول المؤيد لفكرة منح مجلس الأمن سلطة إرجاء التحقيق أو المحاكمة هي أن نص المادة 16ما هو إلا تطبيق عملي لسلطات مجلس الأمن كما هي محددة في ميثاق الأمم المتحدة وخاصة الفصل السابع منه ، الذي يعطي للمجلس سلطة سياسية واسعة النطاق فيما يتعلق بالمسائل ذات الصلة بحفظ السلم والأمن الدوليين .
وفضلاً عما تقدم يرى هذا الفريق أيضاً أن حفظ واستعادة وبقاء السلام قد لا يكون بالضرورة عن طريق تدبير إيجابي يتمثل في إحالة حالة إلى المحكمة ، وإنما قد يكون عن طريق تدبير سلبي يتمثل في وقف الإجراءات أمام المحكمة .
وأما الحجة الرئيسة التي يسوقها الرأي المعارض لفكرة منح مجلس الأمن رخصة إيقاف الإجراءات أمام المحكمة الجنائية الدولية ، فتتمثل في أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى نتائج سلبية وخطيرة في نفس الوقت ، ولعل أبرزها تسييس المحكمة الجنائية الدولية ، وجعلها مجرد (ذيل) تابع لمجلس الأمن ، الأمر الذي يستتبع عرقلة المحكمة بإدخالها في متاهات سياسات الكيل بمكيالين أو العدالة الانتقائية التي أثبت الواقع ودلت التجربة العملية أن مجلس الأمن لجأ ومازال يلجأ إلى انتهاجها في معالجته لبعض القضايا الدولية .
وإذا أردنا الترجيح بين هذين الرأيين على أساس الاعتبارات القانونية من جهة والاعتبارات السياسية من جهة أخرى لوجدنا أن كلا الرأيين جدير بالاهتمام من هذه الناحية أو تلك .
وتفصيل ذلك أ ن الرأي الأول ، الذي يؤيد سلطة مجلس الأمن في إرجاء التحقيق أوالمحاكمة ، إذا نظرنا إليه من الزاوية القانونية الصرفة ، سنجد أن نصوص ميثاق الأمم المتحدة ، وخاصة الفصل السابع منه ، تدعم ترجيح كفة هذا الرأي بدون الحاجة إلى بذل جهد كبير .
وأما الرأي الثاني ، الذي يعارض بشدة مضمون المادة 16 محل الجدل ، فإننا لو نظرنا إليه من منطلق الاعتبارات القانونية لوجدنا أن هذا الرأي لا يصمد كثيراً أمام تلك الاعتبارات ، غير أنه إذا حاولنا إلقاء نظرة على ذلك الرأي من زاوية النظر السياسية البحتة فإن الأمور ستنقلب رأسا على عقب ، لأن الاعتبارات السياسية ستؤدي حتماً إلى ترجيح كفة الرأي الثاني الذي يعارض ، كما أشرنا من قبل ، سلطة مجلس الأمن إرجاء التحقيق أو المحاكمة .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاعتبارات السياسية التي نقصدها هنا هي ذاتها الاعتبارات السياسية التي تم عرضها وشرحها بمناسبة الكلام عن حق مجلس الأمن في إحالة حالة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في الفرع الأول من هذا المطلب ، وعليه نحيل على ما ورد بالخصوص في الموضع المشار إليه آنفاً تفادياً للتكرار والإطالة.
الدور الرقابي لمجلس الأمن في حالة امتناع دولة من الدول عن التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية
لا يضيف جديداً القول أن كافة الدول الأطراف وغير الأطراف في نظام روما الأساسي على حد سواء يقع عليها التزام التعاون التام مع المحكمة الجنائية الدولية في حالة ما إذا كان مجلس الأمن هو الذي أحال الحالة إلى المدعي العام للمحكمة بموجب الفقر (ب ) من المادة 13من نظام روما الأساسي لأن مجلس الأمن عندما يحيل حالة إلى المدعى العام للمحكمة إنما يتصرف في الأساس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة هذا الميثاق الذي صدقت عليه كما هو معلوم كافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ” وليس بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي لا يلزم بطبيعة الحال الدول غير الأطراف وإنما يلزم فحسب الدول الأطراف فيه .
ولسنا في حالة إلى التنبيه الى أن التجربة العملية دلت على أن وجود أي التزم قانوني على عاتق شخص ما طبيعي كان أم اعتباريا دون أن يوجد بالتوازي معه جزاء ينبغي توقيعه عند عدم الوفاء بهذا الالتزام أمر من شأنه أن يجعل من ذلك الالتزام مجرد حبر على ورق .
وعطفا على ما تقدم فإن أبرز المشاكل التي واجهت وما تزال- القانون الدولي- تتمثل في أن قواعد هذا القانون تفرض التزامات عديدة على الدول غير أن قواعد القانون الدولي تفتقر في الغالب إلى الجزاء الذي يفرض احترامها ويحد من مخالفتها .
ولما كان الأمر كذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح الآن يتمثل في معرفة ما إذا كان ثمة دور يمكن لمجلس الأمن أن كان هو الجهة التي أحالت الحالة إلى المحكمة ، واقتنعت دولة طرف أو غير طرف عن التعاون مع المحكمة بخصوص الإجراءات ذات الصلة بموضوع الإحالة ؟
للإجابة على ذلك السؤال نبدأ أولاً بالإشارة إلى أن الفقرتين 5 و 7 من المادة 87 من نظام روما الأساسي نصتا ضمن أحكام أخرى – على مايلي :
في حالة امتناع دولة طرف في هذا النظام الأساسي – عن التعاون يجوز للمحكمة أن تخطر بذلك مجلس الأمن إذا كان مجلس الأمن قد أحال المسألة إلى المحكمة .
في حالة عدم امتثال دولة طرف لطلب تعاون مقدم من المحكمة بما يتنافى وأحكام هذا النظام الأساسي ، ويحول دون ممارسة المحكمة لوظائفها وسلطاتها بموجب هذا النظام ، يجوز للمحكمة أن تتخذ قرارا بهذا المعنى وأن تحيل المسألة إلى مجلس الأمن إذا كان مجلس الأمن قد أحال المسألة إلى المحكمة .
إن إلقاء نظرة سريعة في مضمون النص السابق لتكشف بجلاء عن أن المحكمة الجنائية الدولية (يجوز) لها إخطار مجلس الأمن بواقعة الامتناع عن التعاون معها ، بغض النظر عن كون الدولة الممتنعة طرف أو غير طرف في نظام روما الأساسي ، طالما أن الإحالة كانت من المجلس .
وغني عن البيان أن الغاية من ذلك الإخطار تمكين مجلس الأمن من ممارسة دوره الرقابي الذي يخوله فرض تدابير عقابية على الدولة الممتنعة عن التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية . ومما لا شك فيه أن هذا يعد خطوة جادة في سبيل فرض احترام قواعد القانون الدولي عن طريق التهديد بفرض تدابير زجرية في حال مخالفتها .
والسؤال الذي يثور :الان ما هو أساس هذا الدور الرقابي لمجلس الأمن ، وما هي على وجه التحديد التدابير العقابية التي يمكن للمجلس فرضها على الدولة الممتنعة عن التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ؟ دون الدخول في تفاصيل لا يقتضيها المقام ، يمكننا القول باختصار ، أن ممارسة مجلس الأمن لهذا الدور الرقابي يستند أساساً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وخصوصا المادة (39) التى تخول المجلس سلطة فرض العقوبات لحفظ السلم والأمن الدوليين ، ومن المعلوم أن عدم امتثال دولة ما لطلبات التعاون المقدمة من المحكمة الجنائية الدولية من شأنه أن يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين ، على اعتبار أن الجرائم الداخلية في اختصاص المحكمة تعد – كما ورد في ديباجة النظام الأساسي – من الجرائم الدولية الخطيرة التي تثير قلق المجتمع الدولي ، وتهديد السلم والأمن الدوليين.
وأما بخصوص ماهية التدابير العقابية التي يمكن للمجلس فرضها في حالة عدم التعاون من جانب الدول الأطراف أو غير الأطراف مع المحكمة في الفرض الذي نحن بصدده أي في – حالة ما إذا كان المجلس قد أحال الحالة إلى المدعي العام للمحكمة – فيمكن القول بإيجاز أن النظام الأساسي للمحكمة لم يتضمن نصاً خاصاً يتعلق بتحديد ماهية هذه المعلومات ، وإزاء ذلك ليس ثمة من سبيل سوى الرجوع إلى القاعدة العامة ، وأعني بذلك على وجه التحديد الرجوع إلى المادة (39) من ميثاق الأمم المتحدة التي نصت على التدابير الوقائية التي يجوز للمجلس فرضها لحفظ السلم والأمن الدوليين وقمع العدوان، وهي تدابير تتنوع لتشمل تدابير غير عسكرية كالعقوبات الاقتصادية ، وقطع العلاقات الدبلوماسية ، وكذلك تدابير عسكرية قد تصل إلى حد استعمال القوة المسلحة .