المستشار د. مفتاح محمد قزيط
رئيس فرع إدارة التفتيش على الهيئات القضائية – مصراتة
تفاقمت ظاهرة الفساد على المستوى الدولي تفاقماً ملحوظاً وأصبحت منذ العقد الماضي في قلب الاهتمامات السياسية أكثر من أي وقت مضى، وتباينت التفاسير في شرح أسباب هذا الفساد، فمنهم من ذهب إلى أن تدخل الدولة المفرط هو السبب، لأن هذا التدخل لا ينجم عنه سوى نمو البيروقراطية والأسواق الموازية، بينما يرى آخرون أن سبب الفساد يعود إلى ضعف الوازع الأخلاقي العام، وتراجع شرعية الدولة كتجسيد للمصلحة العامة وذوبان القيم الجماعية في البحث عن الفائدة والمصالح الأنانية والخاصة، وتفاقمت هذه الظاهرة بعدما شمل اتساعها حتى الديمقراطيات الغربية التي كانت تروج دائماً لوجود هذا الفساد في المجتمعات المتخلفة التي تفتقد لسلطة القانون وللمعايير الثقافية والمساءلة السياسية والشعبية.
وقد بيّنت بعض الدراسات أن المجتمعات الحديثة تشهد تراجعاً أخلاقياً هو الذي يشجع على الفساد واتساع مجالاته وابرز مظاهر هذا التدهور ومخاطره هي تضخم ظاهرة الفردية بأشكالها كافة، والتداعيات التي نجمت عنها من الإنكفاء على الحياة الخاصة والابتعاد عن الآخر، وعدم الاهتمام بالتضامن الاجتماعي والاستغراق في الذاتية، وما يُبنى على هذه الفردية من افكار أو فلسفات تقوم على نفي أي حق للمجتمع في التدخل في شؤون الفرد وفي حياته الخاصة، وذلك خلافاً للأخلاقية التي تفترض بطبيعتها تقاسماً للحياة مع الآخرين وتضامناً معهم وتحسساً لآلامهم، والمفارقة هنا تمكن في أن العولمة وحدت العالم من جهة فجعلته كما يتردد قرية كونية، أي مكاناً صغيراً من دون حواجز بسبب الدور الذي لعبته وسائل الاتصال في التعرف إلى العالم وشعوبه عن كثب، بينما دفعت هذه العولمة من جهة ثانية حياة الناس إلى العزلة والإنطواء بسبب تضخم الفردية التي أشرنا إليها.
والمفارقة الثانية في هذا الإطار أن العولمة ما كان بمقدورها أن تعمل إلا لأنها ورثت سلسلة من الأنماط السلوكية والأخلاقية من المراحل التي سبقتها : قضاة لا يمكن إفسادهم، وموظفون نزيهون، ومرّبون كرسوا أنفسهم لرسالتهم، وعمال يتمتعون بالحد الأدنى من الضمير المهني، وهي قيم تم تكريسها ولا نزاع حولها ، إنها : النزاهة وخدمة الدولة ونقل المعرفة والاستقامة والعمل الجيد، إلا أننا أصبحنا نعيش اليوم في مجتمعنا حيث تبدو هذه القيم تافهة ولا قيمة لها، وحيث يتم التركيز على كمية النقود التي تحصل عليها وليس على كيفية السلوك الذي تقوم به، فقد أظهر إحصاء في شيكاغو -على سبيل المثال- أن واحداً من بين كل خمسة من المراهقين الأمريكيين الذين اعتادوا الدخول إلى شبكة الانترنت تلقوا محاولات غير مرغوب فيها لاستدراجهم إلى ممارسة الجنس عبر شبكة المعلومات الدولية، وفي تقرير نُشر في دورية المجلس الطبي الأمريكي أن الاستدراج عبر الانترنت يُضاف إلى قائمة مخاطر الطفولة التي يجب على السلطات أن تكون على دراية بها وقادرة على تقديم المشورة بشأنها للعلائات وفي الإطار نفسه بلغت ظاهرة المواقع الإباحية وبيع الأطفال وتحولهم على أهداف جنسية على مستوى دولي، هذا دفع إلى عقد مؤتمرات عالمية من أجل البحث في كيفية الحد من هذه الظاهرة ومخاطرها، كما انتشرت مواقع القمار على الانترنت التي يتوقع أن تصل إيراداتها في الأعوام القليلة المقبلة إلى نحو ستة مليارات دولار.. وفي أوروبا كان عام 2000 مسيحي عاماً أسوداً بكل معنى الكلمة، فتجارة المخدرات والسجائر والأدوية التي غالباً ما يكون تاريخ صلاحيتها قد انتهى منذ أشهر وقطع الغيار غير الأصلية والألبسة التي تم تزوير ماركتها، والسيارات المسروقة، خصوصاً الفخمة منها، وترويج عمل شبكات الدعارة، إضافة إلى التهريب المنظم لليد العاملة عبر الحدود، كلها ضاعفت من جبروت إمبراطورية المافيات المتعاملة بمبالغ خيالية من الأموال الوسخة التي تتجاوز قيمتها أحياناً ناتج الدخل القومي الإجمالي لعدد من دول القارة الأوروبية، كما تدر تجارة الأسلحة غير المشروعة والتهريب بأنواعه كافة مبالغ ضخمة سنوياً، ويُقدر صندوق النقد الدولي حجم تبييض الرساميل بين (2 .5%) من إجمالي ناتج الدول القومي العالمي أي ما يوازي قدرات اقتصاد بلد كأسبانيا أو فرنسا مثلاً، ويتراوح دخل معتمدي تهريب اليد العاملة من الدول الفقيرة إلى الاتحاد الأوروبي وبحسب تقارير الانتربول بين (3 . 4) مليارات دولار، كما ضربت أوروبا الرقم القياسي عام 2000 مسيحي في تجارة الهيروين(7.16) طناً، والحشيشة (725) طناً، والكوكايين(24) طناً، وتمثل الأرقام التي جناها أصحابها من فساد عبار للقارات أن يُعيد إنتاح القيم أو المجتمعات على هذه القاعدة الوحيدة التي اعتمدها أصحاب هذه الأموال، إذا كان الأمر كذلك، فعلى جميع من يعمل في أي قطاع كان أن يجعل الحصول على المال، والمال فقط نصب عينيه، أي أن على القضاة على سبيل المثال أن يبيعوا قرارات المحاكم في المزاد العلني، وإن على المدرسين أن يعطوا العلامات الجيدة لمن يدفع أكثر من أولياء التلاميذ وهكذا.. إذن لماذا على القاضي أن يكون نزيهاً..؟ وعلى المدرس أن يكون متفانياً..؟ ولماذا على العامل أن يعمل بإتقان إذا كان بإمكانه أن يغش أو يرتش..؟!!
إن ما يجري على هذا الصعيد هو تشويه حقيقي للأخلاق لا يمكن له إذا استمر على ما هو عليه إضافية أن يعيد انتاج حضارة قادرة على الاستمرار.. ما العمل إذن ..؟
هل ثمة فرصة لتدارك ما يحصل، أم أن القطار قد انطلق ولا سبيل لتغيير وجهته أو ايقاف عجلاته أو الحد من تدهوره..! .
ثمة مسؤولية إنسانية عامة مطروحة على شعوب العالم ودوله وقادته كافة لمواجهة الآثار الخطيرة للعولمة بمستوياتها التي أشرنا إليها ولعولمة الفساد التي يصعب إحصاء حالاتها والأرقام المتعلقة بها، أما في العالم الإسلامي فقد انقسم الباحثون والمفكرون إلى اتجاهات عدة في التعامل مع هذه الظاهرة فمهنم من دعا إلى الانخراط في ثقافة الغرب بعدما بات للعالم ثقافة واحدة، ومنهم من رفض الغرب جملة وتفصيلاً متمسكاً بالبديل الديني، وأما الاتجاه الثالث فدعا إلى البحث عن كيفية التوفيق بين الإرث الديني بقيمه الأخلاقية والروحية والإنسانية وبين التقدم العلمي الذي أحرزه الغرب وبات جزءاً لا يُستغنى عنه في حياتنا اليومية من وسائل الاتصال والنقل وسواها، ومن المعلوم أن في داخل كل اتجاه تيارات متباينة سواء من حيث القوة أو التطرف و الاعتدال.
إلا أن ما يمكن قوله في هذا الإطار أن مشكلتنا اليوم عرباً ومسلمين ليست في انخراطنا في عصر العلم والثقافة والتقانة التي باتت كما أشرنا – شأناً من شؤون حياتنا اليومية- كما بات اللجوء إليها بديهيا وهو يتنامى يوماً بعد يوم وتلجأ إليه قطاعات واسعة من المجتمع لأعراض اقتصادية وتربوية وسياسية وأخلاقية أيضاً، كما تلجأ إليها الجماعات الدينية وغير الدينية إما لتنظيم شؤونها أو لنشر فتاواها أو للترويج لأفكارها، إن المشكلة تكمن في محتوى ما نريد نقله بواسطة هذه التقنيات وفي علاقة هذا المحتوى ببنية اجتماعنا العربي الإسلامي أي بهويتنا الثقافية.
إن الدعوة إلى مواجهة العولمة وأخطارها على المستوى الأخلاقي أو على المستويات الأخرى لايمكن أن يظل في إطار العموميات مثل الدعوات إلى تجديد التراث أو تجديد الثقافة العربية وتفعيلها كما يردد البعض، أو كما يقول البعض الآخر بضرورة العودة إلى الذات أو أن (الإسلام هو الحل) من دون أن يقول أصحاب هذه الدعوة مهما قِيل في أهميتها كيف وأين يبدأ هذا الحل ..؟ وبأي تفاصيل ومناهج وأساليب ورؤى ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، إن عجز العرب والمسلمين عن مواجهة آثار سطوة الإعلام والسياسة والاقتصاد والثقافة التي تبسط قدرتها على العالم من أقصاه إلى أقصاه، لا تمنعنا من التأكيد على أن الاستقلال الثقافي هو أساس البناء الذي يحفظ الهوية التي تفرط بها الشعوب في أي بقعة من الأرض، حتى بعد ما سماه البعض سقوط الأيديولوجيات، وفي الوقت الذي تعمل فيه ماكينة العولمة الكونية على بث قيم مختلفة كتلك التي سبق وأشرنا إليها لتغيير السلوك والعادات وأنماط الحياة، ثمة ضرورة للتأكيد على حماية الحلقة المركزية في مجتمعاتنا أو ما نسميه (نظام المناعة) في هذه المجتمعان، أما جوهر هذا النظام وركيزته فهما الأسرة والنظام التعليمي، وإذا استعرضنا ما تعرضت له البلدان العربية والإسلامية منذ قرون على اليوم لوجدنا أن هاتين الركيزتين كانتا على الدوام هدفاً للاختراق أو للتهميش بأشكال شتى، فعبر التعليم يتم تهميش الثقافة والانتماء والولاء، وعبر الأسرة يتم تفكيك الروابط والقيم وتبديل الأدوار التي نظمها الدين عموما والإسلام خصوصاً في هذه الخلية الاجتماعية المركزية عن هذا التبديل للأدوار في داخل الأسرة، وعن تفكيك القيم وتهميش دورها تنتج كل صور الفساد وكل المرأة والجنس والعنف والانحراف والشذوذ، ومن غير الممكن أن نبقى في إطار لتلك الصور من دون أن نعيد وبكل قوة استحضار المناعة التي تشكلها الروابط الأسرية والقيم الدينية.
إن اختراق هذه البنى الدفاعية بأساليب شتى، وغير مباشرة في معظم الأحيان لهو أشد خطورة من الاختراقات أو الاختلاقات في عوالم الاقتصاد أو السياسة، لأن اختراق النواة يُفسد الدوائر كلها، وهو اختراق تكمن خطورته في قدرته على التسلل من خلال الرغبة وتكرار الصورة، فيتحول إلى مألوف نحبه أو نعتاد عليه وغلى أفكار نحملها وندافع عنها.
وعلى أي حال ومهما كانت طبيعة رؤيتنا لهذه العولمة وجوانبها الأخلاقية، ثمة قوى أو عناصر استراتيجية ينبغي حشدها واستنفارها أو على الأقل حمايتها والمحافظة عليها في هذه المواجهة المفتوحة، ونعتقد أن نظام المناعة الذي أشرنا إليه بمرتكزيه التعليمي والأسري من دون أن نُغفل بطبيعة الحال وجود مرتكزات أخرى، هو تلك القوة الاستراتيجية التي يمكن أن تُشكل قاعدة لهوية ليست وهماً -كما يظن البعض- وأساساً لثقافة اسبانية ينشدها الكثيرون في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. وهكذا.. إن تعليمنا مرتبطاً بالهوية ومفتحاً على تطورات العصر وعلومه ومستخدماً أحدث وسائله وتقنياته، هو تعليم ندعو إليه ولا مفر منه، بينما ندعو بالمقابل إلى أسرة تقليدية في قيمها وضوابطها الأخلاقية والدينية التي عُرفت بها وحافظت عليها.