د . عميد عبد اللطيف ابوهدمة
بالرغم من شيوع المبدأ واعتباره مكسباً جديداً للإنسانية منذ قيام الثورة الفرنسية فإنه لم يسلم من النقد، حيث وجهت إليه العديد من الانتقادات إلا أن رجال الفكر الجنائي سرعان ما ردوا على هذه الانتقادات.
الانتقادات التي وجهت للمبدأ
من الانتقادات التي وجهت للمبدأ ما يلي :
1- عدم قدرة المشرع على الإلمام بكافة الوقائع والأفعال: وبالتالي يؤدي إلى جمود القاعدة القانونية، وهو ما يجعلها غير قادرة على مسايرة التطور في المجتمع، أضف إلى ذلك أن تقييد سلطة القاضي وعدم قدرته على التوسع في التفسير يجعله عاجزاً عن معاقبة بعض الأفعال التي لا توجد نصوص لتجريمها، وحيال هذا الوضع نجد العديد من الفلاسفة لديهم آراء في هذا النقد فيرى بعضهم أن التشريع لا يستطيع أبداً أن يحدد بدقة ما هو أفضل وأعدل للجميع ولا أن يأمر بما هو أحسن لكل الناس إذ يتفاوت البشر وتختلف الأفعال ولا ترقد الأمور الإنسانية أبداً في ثبات قانون بلغ شأنه أن يصوغ مبادئ باحثها، ومن ثم يصبح من المحال أن تصلح في كل المواد وفي كافة الأوقات ومع هذا فإن أي تشريع يهدف إلى تحقيق مثل هذه السذاجة فهو على غرار الرجل الدعي الجاهل، الذي يحظر على الناس القيام بأي عمل خارج ما ينظمه، ولا يبيح لأحد حتى مجرد توجيه الأسئلة حتى ولو شاءت الصدفة أن تؤدي فكرة جديدة خارج التنظيمات المقررة إلى نتيجة أحسن في واقعة خاصة، لذا يجب وضع التشريع بالنظر لأكثر الناس ولأغلب الأحوال وترك الحالات الشاذة للقاضي، ولو نظرنا إلى هذا الرأي لوجدناه على جانب من الصواب من حيث سرعة تطور المجتمع وعدم مسايرة التشريعات لهذا التطور، ولكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن الذهن هي أن القاضي أُعطيت له العديد من الصلاحيات في معاقبة الشواذ، وذلك بفرض التدابير الوقائية على الحالات التي تنم عن خطورة إجرامية كما أعطيت للقاضي سلطة تقديرية في فرض العقوبة.
وهناك رأي آخر يؤيد هذا النقد، حيث يقول ” نحن نعلم يقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدد ونعلم قطعاً أيضاً أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك أيضاً، وإذا كانت النصوص متناهية والوقائع غير متناهية يكون بصدد حادثة اجتهاد”، ومن خلال هذا الرأي نرى أن صاحبه يرى تلافي عيب الجمود عن طريق الاجتهاد والقياس، ولكن لا نسايره فيما ذهب إليه لأن الأخذ بالاجتهاد والقياس يعني خلق جرائم جديدة، وفي هذا إهدار للمبدأ إلا أنه يمكن معالجته عن طريق التفسير المنضبط الذي يوضح إرادة المشرع من النص المراد تفسيره، ويجب ألا يستغل التفسير لخدمة التيارات السياسية بل يكون تفسيراً موضوعياً.
وهناك رأي أخير في هذا الموضوع يقول :”إن احتياجات المجتمع متباينة واتصالات البشرية دائمة النشاط ومصالحهم متعددة، بل إن الأمور ذاتها التي تلفت نظره تشمل خضماً من التفاصيل يفلت من الرؤية، ويكثر من الحركة حتى أنه يتعذر احتواؤه في نص تشريعي، فكيف يستطاع سلفاً معرفة وحسبان ما تكشف عنه التجربة وحدها..؟ هل تقدر الحيطة أن تحيط بأشياء بعيدة عن فكر المشرع عند وضعه للتشريع..؟” وبهذه الفكرة أخذ المشرع السويسري في قانونه الصادر سنة 1907 وفي عبارة تضمنتها المادة الأولى “إحالة القاضي عند انعدام النص إلى القاعدة التي كان يضعها لو أنه صار مشرعاً”.
هناك العديد من التشريعات تعاني من عجز في بعض الأحيان عن إيجاد نص لبعض الأفعال، منها ما سقط سهواً، وتشريع 1904 العقابي المصري حيث تنص المادة (179) عقوبات مصري على طرق التزوير، حيث حصرتها في وضع إمضاءات وأختام مزورة، ولكنها لم تنص على التزوير بواسطة البصمة التي تعتبر من أهم المميزات بين الأفراد، خصوصاً في مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية، وبالتالي سيكون التزوير عن طريق البصمة أكثر شيوعاً.
هذا خير دليل على قصور التشريع، ولا يقتصر هذا على ما ورد ذكره بل تعداها إلى جريمة إعطاء صك بدون رصيد لم تكن معروفة في التشريع المصري نظراً لعدم انتشار فكرة التعامل عن طريق الصكوك وظلت هذه الجريمة بدون نص يعاقب عليها إلى حين صدور قانون العقوبات سنة 1937.
2- عدم أخلاقية المبدأ :
وصف مبدأ الشريعة بأنه غير أخلاقي، حيث يمتنع عن توقيع العقوبة في حالة عدم وجود النص، وهذا الفعل شكل خطراً على النظام الاقتصادي وسلامة الأفراد في المجتمع.
هذا إلى جانب عدم قدرته على معاقبة الأشخاص الذين لديهم الخبرة الكافية التي تمكنهم من الاستفادة من الثغرات القانونية، والتي عن طريقها يرتكبون بعض الأفعال الجديرة بالحماية الجنائية، ومع ذلك لا تستطيع العدالة معاقبتهم على هذه الأفعال نظراً لعدم وجود نص قانوني صريح لمعاقبتهم.
3- مبدأ الشرعية وتفريد العقوبة:
من الانتقادات التي وجهت للمبدأ تحديده للجريمة والعقوبة دون النظر إلى شخصية الجاني ودوافع ارتكاب الجريمة بل يهتم بدرجة خطورة الجريمة، غير أنه من ناحية الواقعية لا يستطيع المشرع أن يعرف مسبقاً درجة الخطورة بل القاضي هو الذي يستطيع تحديدها من خلال الوقائع، وعليه يرون أن التمسك بهذا المبدأ يجعل القاضي مجرد إله، لذا فإن المبدأ يتعارض ومبدأ تفريد العقوبة، ومن أول المنتقدين للمبدأ أنصار المدرسة التقليدية الذين يؤمنون بمبدأ الجبرية، حيث يرون أن الشخص الذي يحمل بعض الصفات الإجرامية وعوامل نفسية واجتماعية معينة سيكون مجرماً في المستقبل، وعليه فيجب إعطاء القاضي سلطة تقديرية واسعة حسب ظروف كل مجرم ودرجة خطورته.
4- مبدأ الشرعية يحمي مصالح الطبقة البرجوازية:
من ضمن الانتقادات التي وجهت لمبدأ الشرعية هو حماية مصالح الطبقة البرجوازية، وما النص على المبدأ إلا ناحية مظهرية شكلية، ويبررون ما ذهبوا إليه بالآتي : مما لا شك فيه أن المبدأ بوضعه الحالي لم يظهر إلى الوجود إلا مع قيام الثورة الفرنسية، وبما أن التشريع هو مصدر القاعدة القانونية المكتوبة والقائمون على إصدار التشريع هم من الطبقة البرجوازية، وهي الطبقة التي وصلت إلى السلطة بعد قيام الثورة فإنهم سوف يأخذون مصالحهم في الاعتبار، وما اتحاد هذا المبدأ إلا للبحث عن”حدود ظاهرية لسلطان” الدولة على الأفراد.
* الرد على تلك الانتقادات :
1- قد لا يستطيع التشريع أن يواكب التغير السريع في المجتمع خصوصاً في بعض المجالات، وهو ما يجعله عديم القدرة على استيعاب كافة الأعمال والأفعال التي تشكل خطراً على السير الطبيعي للمجتمع هذا إلى جانب أن المشرع لم يتجه إلى إصدار تشريع معين إلا في الحالات التي يشعر فيها المسؤولون بتنفيذ السياسة التشريعية بوجود خلل فلابد من إصدار تشريع لتلافيه، وبالرغم من ذلك فإن الإبقاء على المبدأ يحقق أكبر فائدة من إلغائه، لأن في وجوده حماية لحقوق وحريات الأفراد، مما يجعلهم يقومون بكافة تصرفاتهم فيما لا يتعارض مع نص القانون، فيترتب على ذلك إشاعة الطمأنينة والثقة عند القيام بأي نوع من المعاملات، نظراً لوجود سياج قانوني يحميهم من جزاء تعسف السلطة.
2- كذلك نرى أن وصف المبدأ بأنه غير أخلاقي مبالغ فيه، لأن القائمين بإصدار التشريعات لم يتركوا الأفعال التي لو توجد نصوص تعاقب عليها عن قصد، ولكن يبررون هذا بأن الأصل في الأشياء الإباحة هذا إلى جانب أن العديد من صور العقاب بالرغم من وجود النص وبالرغم من أن هذا المثال قياس مع الفارق فإن الإشارة إليها ليست إلا بقصد التوضيح، هذا إلى جانب أن العديد من الأفعال تفلت إلا أن الإشارة إليه ليست إلا بقصد التوضيح، على عدم قدرة الدولة على وضع يدها على كافة التصرفات التي قد تحدث من الأفراد.
مثال ذلك من يسرق ولم تستطع الشرطة القبض عليه، أو من يفتح بيتاً سرياً للدعارة، كلها أفعال تشكل خرقاً للتشريع، ولكن قد لا تصل إلى يد العدالة لمعاقبة مرتكبيها، وقد عملت العديد من الدول على التخفيف من حدة المبدأ، وذلك بإعطاء سلطة تقديرية للقاضي وإصدار السلطة التنفيذية للقرارات واللوائح خصوصاً فيما يتعلق بالمخالفات، وقد ترتب على ذلك محاولة بعض الدول الخروج عن المبدأ، ومثال ذلك الاتحاد السوفيتي في قانونها الصادر سنة 1926، وألمانيا في فترة الحكم النازي، إلا أنه بعد الموازنة رأت الرجوع للأخذ بالمبدأ.
3- إن المهتم بدراسة المبدأ وتاريخ ظهوره يجد أنه بدأ متمسكاً بحرفية النص، وكانت العقوبة ذات حد واحد، وبالتالي لم يكن للقاضي خيار، فمتى توفرت أمامه أدلة الإدانة لم يكن أمامه إلا النطق بالحكم، وتظهر صيرورة هذا التطبيق في القانون الصادر سنة 1791، ومن الإنصاف نرى أنه يجب ألا تُحسب هذه الفترة كنقطة ضعف على المبدأ، نظراً لأنها تعتبر هذه الفترة رداً على الاستبداد والسلطة التحكمية التي كان يتمتع بها في تلك الفترة الغابرة قبل ظهور المبدأ، وبالرغم من كل ما وُصفت به هذه الفترة إلا أنها تعتبر حرجة بالنسبة للقاضي، حيث يعاني الكثير من الصعوبات نظراً لقسوة العقوبة، مما يجعل ضميره بين شك ويقين في الدليل الذي سيبني عليه حكمه، فعندما يتغلب الشك يحكم بالبراءة، وأحياناً يترتب على ذلك إهدار للمصلحة العامة، ولكن يغلب ذلك على الحكم بعقوبة قاسية، وسرعان ما تلافى هذا العيب العديد من التشريعات عن طريق الاستعانة بالسلطة التنفيذية في مرحلة التنفيذ، حيث أعطت حق الإفراج الشرطي وتخفيف مدة العقوبة إذا كان المسجون حسن السيرة والسلوك أثناء مرحلة تنفيذ العقوبة، كما فرّقت العديد من التشريعات بين العقوبة والتدابير الوقائية، وحددت الظروف المخففة والمشددة للعقوبة، ونصت على تقسيم المجرمين إلى فئات حسب درجة السن والثقافة أثناء مرحلة التنفيذ، وكذلك أصبح من حق القاضي الحكم بوقف التنفيذ، كما أعطى له اختيار عقوبة الحبس أو الغرامة في الجنح والمخالفات، وإضافة التدبير الوقائي بجانب العقوبة في الحالات التي تنم فيها شخصية الجاني عن خطورة إجرامية.
4- وبالرغم من أننا نتفق مع صاحب هذا الرأي على أن المبدأ قد يأخذ مظهراً شكلياً ويعمل على حماية مصالح واقعية أياً كانت هذه المصالح، ولكن نختلف مع هذا الرأي حيث نرى أن إرهاصات المبدأ جاءت كثورة على الأوضاع العقابية الظالمة التي كانت تضع الأفراد في غياهب السجون، وعدم التقيد بشخصية العقوبة، غير أن القول الذي نؤكد عليه أنه إذا كان قد وُجد استغلال للمبدأ في خدمة التوجهات السياسية أو مصالح الطبقة البرجوازية أو القائمين على إصدار التشريع، فيجب ألا يوجه هذا النقد للمبدأ فهو جاء من أجل تحقيق أهداف سامية إذ واجهته العديد من الأزمات، نظراً لأنه يهدف إلى حماية الحريات من تعسف السلطة.