دكتور محمد هاشم ماقورا
توجد في الوقت الراهن فضلاً عن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة ICC ، ثلاث محاكم جنائية دولية مؤقتة، Ad hoc ، وهي محاكم : يوغسلافيا السابقة ICTR والمحكمة الخاصة لسيراليون SCS .
سنحاول عقد مقارنة سريعة بين هذه المحاكم الجنائية في محاولة للتعرف بشكل أوضح على الملامح الأساسية لكل منها ويمكن القول بأن العناصر التي يصح عقد المقارنة على أساسها هي :
تاريخ الإنشاء – السند أو الأداة القانونية للإنشاء- المقر- طبيعة المحكمة من حيث كونها دائمة أو مؤقتة- العلاقة مع الأمم المتحدة – العلاقة مع مجلس الأمن- العلاقة مع القضاء الوطني – التمويل- الاختصاص من حيث الموضوع والزمان والمكان والأشخاص- التنظيم والإدارة- العقوبات الواجبة التطبيق- وجود قضاة وطنيين من عدمه ضمن تشكيلة المحكمة.
وبالنظر إلى أن الحدود المرسومة سلفاً لهذا البحث، لا تسمح بتناول العناصر المذكورة في كل بند مستقل على حدة، عليه رأينا ملاءمة تصنيف هذه العناصر ضمن ثلاث مجموعات، وبالتالي إجراء المقارنة المطلوبة بين المحاكم الجنائية الدولية القائمة انطلاقاً من زوايا ثلاث هي :
أ- المقارنة بين المحاكم الجنائية الدولية على أساس العناصر ذات العلاقة بالإنشاء.
ب- المقارنة بين المحاكم الجنائية الدولية على أساس العناصر ذات الصلة بعلاقة كل محكمة بالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والقضاء.
ج- المقارنة بين المحاكم الجنائية الدولية على أساس العناصر ذات العلاقة بالاختصاص من حيث الموضوع، والزمان، والمكان، والأشخاص.
المقارنة بين المحاكم الجنائية الدولية من حيث الإنشاء
1- تاريخ الإنشاء :
لو تجاوزنا المحكمتين الجنائيتين الدوليتين المؤقتتين اللتين أنشئتا مباشرة عقب الحرب العالمية الثانية ولكنهما أصبحتا الآن في ذمة تاريخ القانون الدولي الجنائي، وهما : محكمة نورمبرج 1945، ومحكمة طوكيو 1946، لوجدنا أن أقدم المحاكم الجنائية الدولية القائمة في الوقت الراهن هي محكمة يوغسلافيا السابقة عام 1993، تليها محكمة راوندا عام 1994، ثم المحكمة الجنائية الدولية “الدائمة” عام 1998، وأخيراً المحكمة الخاصة لسيراليون عام 2002.
2- الأداة القانونية للإنشاء :
يختلف السند القانوني لإنشاء المحاكم الجنائية الدولية.. بمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا أنشئتا مباشرة بموجب قرارات اتخذها مجلس الأمن بالخصوص.
وأما المحكمة الجنائية ICC فقد أنشئت بموجب اتفاقية دولية أُبرمت خصيصاً لهذا الغرض وهي الاتفاقية المعروفة -كما أشرنا من قبل- باسم نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وأما المحكمة الخاصة لسيراليون وإن كان مجلس الأمن قد ساهم بشكل غير مباشر في إنشائها من حيث كونه اتخذ قرارا بموجبه كلف الأمين العام للأمم المتحدة بالتفاوض مع حكومة سيراليون، إلا أن هذه الأخيرة لم تنشأ بموجب اتفاقية دولية أطرافها عدة دول، كما هو الحال بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة وفي نفس الوقت لم تنشأ مباشرة بقرار اتخذه مجلس الأمن، كما هو الحال بالنسبة لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا، فمحكمة سيراليون أنشئت بموجب اتفاق دولي أطرافه الأمم المتحدة من جهة وحكومة سيراليون من جهة أخرى.
3- أسباب إنشاء المحاكم الجنائية :
المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة يجمع بينها أنها أنشئت جميعها بسبب حروب أهلية تطور بعضها إلى نزاع مسلح دولي، كما أن هذه المحاكم أنشأها مجلس الأمن أو سعى من أجل إنشائها متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وفيما يلي تفصيل ذلك :
أ- المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة : يمكن تلخيص أسباب إنشاء المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، في أنه بعد انهيار نظام القطبية الثنائية، وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1989، وكذلك الاتحاد اليوغسلافي في عام 1992، سعت جمهوريات هذا الأخير إلى الاستقلال، غير أن هذا الأمر لم تقبل به جمهورية صربيا على الأخص، وترتب على ذلك نشوب نزاع مسلح اكتسى طابع الصراع الديني والقومي في نفس الوقت.. وقد اندلعت الشرارة الأولى لذلك النزاع في جمهورية البوسنة والهرسك التي يُشكل المسلمون 42 % من سكانها، في حين يشكل الصرب 32%، والكروات 8%.
ونظراً للتفوق العسكري الذي كان يتمتع به صرب البوسنة آنذاك بسبب دعم الجيش الصربي لهم بقوة ارتكبوا مخالفات جسيمة للقانون الدولي الإنساني أبرزها إبادة قرى بأكملها، وقتل المدنيين الأبرياء، وطرد وتشريد آلاف الكروات والمسلمين وتعريضهم للموت جوعاً وعطشاً، وإقامة معسكرات الاعتقال الجماعية التي شهدت ممارسة أفظع صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، وكذلك اغتصاب النساء، فضلاً عن ارتكاب مجازر عديدة، وتنفيذ حالات إعدام متزايدة خارج القانون والقضاء، ودفن الضحايا في مقابر جماعية لم يكتشف أمر بعضها إلا في السنوات الأخيرة.
ب- المحكمة الدولية لرواندا :
لعل أبرز وقائع الأزمة الرواندية التي أدت إلى تدخل مجلس الأمن، تكمن في أنه عقب وقوع حاثة تحطم طائرة الرئيسين البورندي والراوندي بتاريخ 6-4-1994، ارتكبت أفعال عنف فظيعة في رواندا هزت الرأي العام العالمي بقوة، وقد وقعت أعمال العنف المتبادل هذه بين القوات الحكومية الرواندية من جهة، وقوات الجبهة الوطنية الرواندية من جهة أخرى، والواقع أن هذا العنف المتبادل استمر مدة طويلة ارتكبت خلالها وقائع قتل، وقطع للطرق، فضلاً عن ارتكاب جرائم إبادة جماعية راح ضحيتها الألوف من المدنيين الأبرياء من النساء والأطفال من سكان مدينة “كيغالي” ومن أفراد قبيلتي التوتسي والهوتو بوجه خاص.
ونظراً لما حصل من مخالفات خطيرة للقانون الدولي الإنساني وانتهاكات صارخة واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وجد مجلس الأمن الدولي نفسه أمام وضع يهدد السلام والأمن الدولي، الأمر الذي دفعه إلى التصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وإنشاء المحكمة الدولية لراوندا.
ج- المحكمة الخاصة لسيراليون :
يُستفاد من صحيفة الاتهام المتعلقة بالقضية التي تنظر فيها محكمة سيراليون في الوقت الراهن تحت رقم (SCS-2003-01-1 ) ضد تشارلز تيلور رئيس جمهورية ليبيريا الأسبق، أن حالة النزاع المسلح في سيراليون بدأت عام 1991، وأنه تورطت في هذا النزاع تنظيمات وفصائل مسلحة عدة، من بينها الجبهة الثورية المتحدة، وقوات الدفاع المدني، والمجلس الثوري للقوات المسلحة، من أجل الوصول إلى الحكم والسيطرة على أراضي سيراليون، وعلى الأخص مناطق تعدين الماس فيها.
ويُستفاد من صحيفة الاتهام المشار إليها أيضاً أنه في جميع فترات النزاع المسلح في سيراليون، قامت التنظيمات المسلحة المذكورة أعلاه بهجمات شنيعة وعلى نطاق واسع ومنهجي ضد السكان المدنيين في سيراليون، وقد شملت الهجمات تجنيد الأطفال للأغراض العسكرية، والتعذيب الجسدي، والاعتداءات الجنسية ضد الرجال والنساء والأطفال المدنيين، والاختطاف، وإرهاب السكان المدنيين، وإتلاف ممتلكاتهم.
4- المقر :
إثنتان من المحاكم الجنائية الدولية القائمة مقرها في “لاهاي” وهما : المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة “ICTFY “، والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة “ICC “.
أما المحكمة الخاصة لسيراليون، فمقرها في “فريتاون” عاصمة سيراليون، وأما المحكمة الجنائية الدولية لراوندا، فمقرها في “أروشا” تنزانيا.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من اختلاف مقر محكمة يوغسلافيا السابقة عن مقر محكمة رواندا، وما ترتب على ذلك من بعد كبير في المسافة بينهما “10.000 ميل” إلا أنهما تقاسمتا ذات المدعي العام وذات الدائرة الاستئنافية.
والواقع أن قرار ربط المحكمتين على النحو المشار إليه أعلاه لم يكن مبنياً على اعتبارات قانونية البتة، بل كان مبنياً على اعتبارات اقتصادية وعملية في نفس الوقت.
وتفصيل ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت وراء هذه التركيبة الغربية، وغير المنطقية لمحكمتين منفصلتين أنشئتا بقرارين غير مرتبطين، أرادت -أي أمريكا- أن تتفادى مشكلة كانت محتملة آنذاك، وهي أن يستغرق اختيار مدعي عام خاص بمحكمة رواندا فترة طويلة من الزمن، كما حصل بالنسبة للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، وأما السبب وراء تقاسم المحكمتين للدائرة الاستئنافية الدولية ليوغسلافيا السابقة، فقد كان اقتصاديا بحثاً، يتمثل في أن ذلك من شأنه توفير النفقات.
وهذا – في وجهة نظرنا- كان تفكيراً خاطئاً، لأن بُعد المسافة بين المحكمتين “10.000 ميل” كما أشرنا من قبل سيجعل النفقات من الناحية العملية باهظة جداً.
5- من خلال عقد مقارنة بين النصوص ذات العلاقة بالتنظيم والإدارة والقضاة الواردة في النظم الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية، وكذلك أيضاً في القواعد الإجرائية التي تطبقها يمكن القول بأن ما يميز تلك المحاكم من حيث التنظيم والإدارة، يكمن في التالي :
أ- تنفرد المحكمة الجنائية الدولية “الدائمة” دون غيرها من المحاكم الجنائية الدولية “المؤقتة” بوجود هيئة للرئاسة ضمن أجهزتها الرئيسة وكذلك شعبة تمهيدية، أو كما يسميها البعض غرفة ما قبل المحاكمة.
ب -في حين تتوفر كل محكمة من المحاكم الجنائية الدولية والمؤقتة على حد سواء على شعبة أو دائرة ابتدائية خاصة بها يُلاحظ أن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، تتقاسمان الدائرة الاستئنافية وتشتركان في ذات المدعى العام للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة.
ج- لأسباب لا يتسع المقام هنا للخوض في تفاصيلها المحكمة الوحيدة التي تتوفر على جمعية للدول الأطراف في نظامها الأساسي هي المحكمة الجنائية الدولية الدائمة”.. ويلاحظ أن هذه الجمعية ليست من ضمن الأجهزة الرئيسية لتلك المحكمة وهي : هيئة الرئاسة- مكتب المدعى العام- قلم التسجيل- والدوائر القضائية.
د- تتكون الدوائر في كل من محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا منه (11) أحد عشر قاضياً عينتهم الجمعية العامة للأمم المتحدة من قائمة قدمها مجلس الأمن لا تقل عن 22 ولا تزيد على 33 قاضياً من بين القضاة الذين رشحتهم لهذا الغرض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وأما الدوائر في المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، فتتألف من (18) قاضياً يتم انتخابهم من قبل جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، من قوائم القضاة الذين ترشحهم الدول الأطراف في الاتفاقية.
وأما الدوائر في المحكمة الخاصة لسيراليون فتتكون من عدد من القضاة لا يقل عن ثمانية ولا يزيد على أحد عشر قاضياً.
هـ- تنفرد المحكمة الخاصة لسيراليون بأنها الوحيدة من بين المحاكم الجنائية الدولية القائمة، التي تتكون دوائرها من قضاة وطنيين تعينهم حكومة سيراليون، والباقي قضاة دوليون يعينهم الأمين العام للأمم المتحدة، ففي الدائرة الابتدائية لهذه المحكمة يعمل ثلاثة قضاة، تعين أحدهم حكومة سيراليون، ويُعين الأمين العام للأمم المتحدة قاضيين.
وفي هذا السياق يثور سؤال مهم : ما دامت المحكمة الخاصة لسيراليون مختلطة، تتكون من قضاة تعينهم حكومة سيراليون وآخرين تعينهم الأمم المتحدة .. فهل يصح إسباغ وصف الدولية عليها..؟ وبعبارة أخرى: ما هي العناصر التي على أساسها يسوغ وصف المحكمة الخاصة لسيراليون بالدولية ..؟
هذه العناصر هي :
1) إن مجلس الأمن الدولي باتخاذه للقرار (1315) لعام 2000 المتعلق بتكليف الأمين العام للأمم المتحدة بالتفاوض مع حكومة سيراليون، من أجل التوصل إلى إبرام إتفاق بشأن المحكمة الخاصة لسيراليون، هذا المجلس وإن لم يقم بدور مباشر في إنشاء المحكمة، إلا أنه يمكن القول بأن إنشاء تلك المحكمة كان بإذن منه.
2) المحكمة الخاصة لسيراليون انشئت بموجب اتفاق أحد أطرافه دولي، هو الأمم المتحدة.
3) دوائر المحكمة تضم – كما ذكرنا من قبل- فضلاً عن قضاة سيراليون، قضاة يعينهم الأمين العام للأمم المتحدة.
4) المدعى العام للمحكمة يعينه الأمين العام للأمم المتحدة ( المادة 3/1 من الاتفاق).
5) مسجل المحكمة يعينه الأمين العام للأمم المتحدة وهو موظف دولي تابع للأمم المتحدة (المادة4 من الاتفاق).
6) نفقات المحكمة تمول من تبرعات المجتمع الدولي (المادة 6 من الاتفاق).