د . سعد حماد صالح القبائلي / أستاذ القانون الجنائي المشارك بكلية القانون -جامعة قاريونس – ليبيا
يُعد حق المتهم الدفاع في الشريعة الإسلامية من أهم عناصر إقامة العدل الذي يعتبر من أعظم حقوق الإنسان المستمدة من الله عز وجل مباشرة، إذ قصر الله سبحانه وتعالى الحكم على نفسه فقال 🙁 إن الحكم إلا لله).
ولا مراء فإن حكم الله يكون عدلاً مطلقاً، إذ لا يعرف الله المحاباة ولا المجاملة ولا التحامل، فيقول الله تعالى في كتابه الكريم:(لقد أرسلنا رُسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، وقال تعالى :(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولاتكن للخائنين خصيماً).
والربط بين الحق والعدالة الإلهية يُضفي عمقاً عقائدياً للحقوق، الأمر الذي يدفع المرء إلى المطالبة بحقه في إصرار وثبات، لأنه من أمر الله، ومن ثم فهو في إطار الواجبات لا الحقوق.
كما يُعد حق الدفاع حقاً مقدساً يهدف إلى تحقيق المساواة في المراكز الإجرائية بين الخضوع أمام القضاء، وحيث تختل هذه المساواة تختل فكرة العدالة ذاتها، ويؤدي هذا الاختلال إلى عواقب وخيمة على المجتمع، لأنه يجعل قواعد القانون الموضوعي التي تنظم العلاقات بين الأفراد في المجتمع عبثاً لا فائدة منها.
وإن من أهم بواعث الأمن والاطمئنان والشعور بالسكينة والراحة النفسية أن يشعر الإنسان بأنه في حصانة تامة من أي حيف قضائي، وأم ما يُنسب إليه من تُهم لا يصدق لأول وهلة، بل يأخذ طريقاً واضحاً من التحقيق والمحاكمة، في جو تسوده العدالة، وتُتاح فيه فرص الدفاع، وتُمحص فيه القضايا تمحيصاً يقوم على النزاهة والدقة، حتى لا يعاقب بريء ولا ينجو مجرم.
ويُعد حق الدفاع في الإسلام – كما هو في القوانين الوضعية- من لوازم الاتهام، فهو فيه من المسلمات، وإن كانت لا توجد نظرية عامة بحق الدفاع، حيث لم يتناول فقهاء الشريعة الإسلامية كل جزئياته مثل ما عمل فقهاء القانون الوضعي، غير أنهم عرضوا لبعض التطبيقات المتفرقة لحق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه أمام القضاء أو الاستعانة بغيره للدفاع عنه في هذا الشأن.
لذلك فإننا نقسم دراستنا لهذا الموضوع إلى فصلين، وهما :
* الفصل الأول : حق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه.
* الفصل الثاني : حق المتهم في الاستعانة بمحام.
* حق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه
إن الشريعة الإسلامية قد كفلت للمتهم حق الدفاع عن نفسه أمام مجلس القضاء، وكل ما ورد من المبادئ والأُسس التي تؤكد هذا الحق في إعلانات حقوق الإنسان، وما جسد في الدساتير العالمية، ما هي إلا أعمال كاشفة لما قررته الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان.
وإن كانت الشريعة الإسلامية لم تتعرض لحق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه بشكل صريح- كما هو في القانون الوضعي- فإن لهذا الحق في الشريعة الإسلامية مظاهر عديدة أهمها:
أولا : حق المتهم في الحضور :
يجب على القاضي ألا يحكم على المتهم الغائب، لأنه مهما قُدّم له من أدلة ضد المتهم فقد يأتي هذا الأخير بما يدحض هذه الأدلة كما رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه جاءه رجل قد فُقئت عينه، فقال له عمر: تحضر خصمك، فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى، فقال له عمر: فلعلك فقأت عيني خصمك معاً، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معاً، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء، قالوا: ولا يُعلم لعمر من ذلك مخالف من الصحابة.
كما رُوي عن عمر بن عبدالعزيز، قال لقمان إذا جاءك الرجل وقد سقطت عيناه في يده فلا تحكم له حتى يأتي خصمه.
غير أنه يشترط لتمتع المتهم بهذا الحق أن يكون هذا المتهم موجوداً في محل ولاية القاضي وغير متخف، أما إذا كان المتهم غير موجود في ولاية القاضي أو متخف فقد اختلف الفقهاء بشأنه، فقد رأى الأحناف عدم القضاء على الغائب حتى يحضر، بينما أجاز الشافعية والمالية والحنابلة والظاهرية القضاء على الغائب إذا غاب عن البلد أو عن مجلس القضاء، أو استتر عن القضاء، واستدلوا بقوله تعالى :(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله) فقالوا:إن الأمر بإقامة القسط يُفيد العموم فيشمل الحاضر والغائب فيصبح بذلك القضاء على الغائب كالحاضر.
وقالوا أيضا أن القضاء على الغائب لا يخل بحق المتهم في الدفاع أمام القضاء، لأنه إذا حضر المتهم كانت حجة قائمة، ويمكن سماعها والعمل بها حتى ولو أدى ذلك نقض الحكم.
ونحن نرى عدم الحكم على المتهم الغائب حتى يحضر، وذلك لأن حضور المتهم يُعد من أهم ضمانات حق المتهم في الدفاع، فلا يمكن للقاضي أن تتضح له الحقيقة إذا لم يحضر المتهم أمام القضاء، ويُقدم أدلته ويُفند أدلة خصمه، فالمتهم عند حضوره قد يقدم من الحجج ما يُبطل أو يُضعف كل ما قدمه خصمه.
غير أننا في نفس الوقت نرى أنه يشترط لعدم الحكم على الغائب توافر شرطين، وهما :
الأول : ألا يكون المتهم ممتنعاً عن الحضور دون عذر مقبول، قاصداً بتغيبه التهرب من المثول أمام مجلس القضاء، فهو في هذه الحالة قد أساء استعمال حقه في الدفاع، ومن ثم لايكون أهلاً للحماية الممنوحة له بناء على هذا الحق.
الثاني: ألا يترتب على تغيب المتهم عن الحضور تعطيل الفصل في الخصومة، أو إهمالها لما في ذلك من الإضرار ببقية أطراف الدعوى دون أي مبرر مقبول، وهو يخالف مقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء التي لا ضرر فيها ولا ضرار.
ثانياً: حق المتهم في المساواة:
ومن المبادىء التي يقوم عليها حق الدفاع أن يتساوى الخصوم في حق الدفاع، فلا يُعطى أحدهما حقه في الدفاع عن دعواه، ويُحرم الآخر من هذا الحق، والمساواة بين الخصمين بصرف النظر عن اختلاف مكانتهما أصل مهم من أصول العقيدة الإسلامية،”فلا فرق بين المسلم وغير المسلم، ولا بين مسلم وأخيه إلا بتقوى الله” كما قال تعالى:(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فلا تحمل العداوة والبغضاء على ترك العدل، لقوله تعالى :(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
ولا أثر في للقرابة في المحاباة أو المجاملة على حساب المساواة، لقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، وعلى على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)، وحتى يتمتع كل خصم بالمساواة أمام القضاء، فإن الإسلام يُلزم القاضي بضرورة مراعاة ما يؤدي إلى ذلك من إجراءات وأمور تستوجبها الخصومة القضائية، ويرد ذلك في ضرورة التسوية بين الخصمين في طريقة استدعائهما، والاستماع إليهما، وتمكينهما من إبداء دفاعهما بحرية تامة من غير تمييز بين الغني والفقر، أو بين الضعيف و القوي، أو بين المغمور وذي الجاه والنفوذ، وفي هذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:”من اُبتلي بالقضاء بين المسلمين فليسو بينهم في المجلس، والإشارة، والنظر ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر”.
وجاء في كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: آس بين الناس في وجهك، ومجلسك، وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حقك، ولا ييأس ضعيف من عدلك..”
وقد ورد أن عبد الله بن الزبير خاصمه عمرو بن الزبير إلى سعيد بن العاص، وهو على السرير، وقد أجلس عمرو بن الزبير على السرير، فلما جاء عبدالله بن الزبير وسع له سعيد عن شقه الآخر، وقال:هنا، فقال عبدالله بن الزبير:الأرض، الأرض قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي.
فإذا خص القاضي أحد الخصمين بالدخول عليه، والقيام له، والإقبال عليه، والبشاشة له والنظر إليه، كان ذلك دليل على حيفه وظلمه، لأن في تخصيص أحد الخصمين لدى القاضي مفسدتين، أحدهما: طمع الخصم المخصص في أن تكون الحكومة له فيقوي ذلك قلبه وجنانه، والثانية: يأس الخصم الآخر من عدله فيضعف قلبه وتنكسر حجته.
وفي الحقيقة أن التسوية بين الخصوم على نحو ما ذكرنا لم تتعرض لها القوانين الوضعية كما لم يتناول أحد من فقهاء هذه القوانين بمثل هذا التفصيل، بالرغم لما لها من أثر كبير في تأكيد الثقة في عدالة القضاء، فضلاً عن توفير الظروف الملائمة لإظهار الحقيقة، والوصول إلى حكم عادل.
ومما يُؤسف له أن بعض النظم الوضعية تفرد لممثل النيابة العامة مكاناً خاصاً إلى يمين هيئة المحكمة، وفوق منصة القضاء، وفي الوقت الذي يبقى فيه المتهم حبيس قفص الاتهام، ومن حوله الحراس، وحتى ولو كان له محام فمجلسه دون مجلس ممثل النيابة مما يُشعر بعدم المساواة.
ولما كان المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته وفقاً لنص المادة الرابعة والعشرين من مشروع وثيقة حقوق الإنسان المقدمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
لما كان ذلك فإنه يجب التسوية بين ممثل الاتهام والمدافع عن المتهم في مجلس.
ثالثاً : حق المتهم في سماع مقاله:
من أهم المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة بين الخصوم، هو مبدأ حق المتهم في سماع مقاله أمام القضاء، وهو حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب عندما بعثه إلى اليمن قاضياً، فعن علي -كرم الله وجهه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله تُرسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء..؟ فقال :”إن الله سيهدي قلبك ويُثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، أحرى أن يتبين لك القضاء” قال: مازلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد.
من هذا الحديث يتضح لنا أنه يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن الحكم قبل سماع حجة المتهم، والنهي يُفيد فساد المنهي عنه، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء، ففي القضية التي تسور فيها الخصمان المحراب على نبي الله داود -عليه السلام- ليحكم بينهما بالعدل، وكان المدعي قوي الحجة، إذ قال فيما نص عليه القرآن على لسانه:(إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) وأمام هذه الحجة الظاهرة حكم له النبي داوود دون سماعه لحجة المدعى عليه(المتهم)، كما جاء في قوله تعالى:(قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات….).
ولما كان هذا الحكم قد صدر بدون سماع حجة طرفي الخصومة، فإن داود قد شعر بخلل حكمه فسارع إلى الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى:( وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) وكان هذا من الله توجيهاً لنبيه داود، وإنذاراً لمن يتولى القضاء بين الناس في الأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بأن الحكم بظاهر حجة خصم دون سماع حجة الخصم الآخر، هو ميل عن الحق وإتباع للهوى يترتب عليه العذاب الشديد يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الكريم:(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
رابعاً : حق المتهم في عدم إثبات براءته:
إن قاعدة افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته، قد وُجدت في الشريعة الإسلامية من مدة تزيد على أربعة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن والسنة، وبهذا فقد امتازت هذه الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في القانون الوضعي الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقُررت لأول مرة في المادة 9 من إعلان حقوق الإنسان الصادر عام1789م، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى التشريعات الوضعية الأخرى، حتى أصبحت قاعدة عالمية في القوانين الوضعية كلها.
وتطبيقاً لهذه القاعدة في الشريعة الإسلامية فإن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعى، فعليه أن يثبت وقوع الجريمة من المدعى عليه (المتهم) ومسؤوليته عنها، عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-:”البينة على من ادعى”، ولا يوجد أي التزام على المتهم من حيث المبدأ لإثبات براءته، فهو في نظر الجميع يعتبر بريئاً حتى يُدان، غير أنه ليس هناك ما يمنع المتهم من المساهمة في إثبات براءته بتقديم الأدلة والبيانات للقضاء التي من شأنها نفي التهمة ودرء المسؤولية الجنائية عنه، أو التعبير عن قيام سبب من أسباب الإباحة، أو انعدام المسؤولية أو أي عذر من الأعذار الشرعية.
خامساً: حق المتهم في اختيار وسيلة دفاعه:
وتبرز أهم مظاهر حق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه في الشريعة الإسلامية في حرية المتهم في اختيار وسيلة للدفاع عن نفسه، ولا يجوز مطلقاً التأثير عليه أثناء استجوابه بأي مؤثر يخل بإرادته ويكرهه على الاعتراف سواء كان هذا التأثير مادياً أو معنوياً أو باستخدام الوسائل الحديثة.
وكذلك لا يجوز إكراه المتهم أثناء استجوابه مهما كانت الأسباب لحمله على الاعتراف بارتكابه الجريمة الجاري معه التحقيق بشأنها، فإذا ما قر عند استجوابه باستعمال هذا الأسلوب معه، فلا يعتد بهذا الإقرار ولا يعول عليه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-:” إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، ورُوي أن قوماً من الكلاعيين سُرق لهم متاع، فاتهموا أناساً من الحاكة، فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- فحبسهم أياماً ثم خلى سبيلهم، فأتوا النعمان فقالوا:خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان، فقال النعمان:ما شئتم، إن شئتم أن اضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم، فقالوا: هذا حكمك..؟ فقال: هذا حكم الله وحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-” قال أبوداود: إنما أرُهبهم بهذا القول، أي : لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف”، وبمعنى أكثر وضوحاً أن الضرب المشروع هو ضرب الحدود أو التعزير وذلك لا يكون إلا بعد إثباتها.
وقال الإمام مالك: إنه لا يُعتد باعتراف المتهم أثناء استجوابه إذا كان هذا الاعتراف قد تم نتيجة التأثير على إرادته بالتهديد أو الوعيد أو الحبس أو الضرب، لأن هذا الاعتراف كان وليد إكراه، ولا يُعتد باعتراف المتهم إلا إذا اعترف وهو بكامل حريته آمناً مطمئناً.
وقال الإمام ابن حزم: لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب، ولا بسجن، ولا بتهديد، لأنه لم يوجب ذلك في قرآن ولا سُنة ثابتة، ولا إجماع، ولا يحل أخذ شيء من هذه النصوص، بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله:” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام”.
فحرّم الله البشر والعِرض، فلا يحل ضرب مسلم ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن، أو السُنة الثابتة.
ومما يؤكد ضمان حق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه أن هذه الشريعة قد أعطت المتهم حق الرجوع عن إقراره في أي وقت سابق على تمام تنفيذ الحد، حتى ولو كان ذلك بعد الحكم عليه، ورجوعه عن إقراره يرفع عنه الحد، ويستدل على ذلك بما حدث لماعز بن مالك حين ذاق مس الحجارة وحاول الهرب، فأدركوه ورجموه حتى مات، فلما أخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك قال :”فهلا تركتموه”.
وهذا القول يدل دلالة واضحة على أن محاولة الهروب من الضرب تحمل معنى الرجوع عن الإقرار، وأن الرجوع عن الإقرار يُسقط الحد حتى ولو كان ذلك بعد الحكم، لأن استيفاء الحد من تتمة القضاء.
غير أن هذا الرجوع عن الإقرار لا يمنع من الحكم بعقوبة تعزيرية.