الاستاذة:عزة كامل المقهور

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية هاجساً دائماً، يتمثل في ازدواجية المعايير، فهي تارة – قد تكون صادقة في ذلك- تقود دول العالم في المطالبة بترسيخ قواعد الإنسان، وتذهب إلى حد العمل على تشكيل محاكم جنائية دولية (يوغسلافيا- رواندا) شبه دولية (سيراليون- كمبوديا- لبنان) وفي تارة أخرى تتفنن في ممارسة أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان (معتقلو غوانتانامو- الحرب على العراق).

إلا أنه وبين هذين الموقفين المتباينين نرى الولايات المتحدة الأمريكية تتخذ موقفاً بين هذا وذاك، فتطرح الفكرة ثم تتخلى عنها، بل قد تصل على حد معارضتها والعمل على محاربتها وهي في هذا الموقف القلق كما هو الحال في كل مواقفها غالباً ما تبحث عن “مخرج قانوني” يساعدها على تقديم الحجة أمام المحافل الدولية، وهي بارعة في ذلك..!

الولايات المتحدة لا تلعب لعبة السياسة الممزوجة بالقوة فحسب، ولكنها تلجأ إلى حجة القانون الممزوجة بالمنطق، وهي وإن كانت قد تمكنت لحد الاقناع في ذلك كما حدث عقب أحداث 11 سبتمبر وقبلها في حرب الخليج الأولى والثانية، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً حيث تعلّق الأمر بالمحكمة الجنائية الدولية، وتخلى عنها حتى حلفاؤها الأقربون(بريطانيا) ووجدت نفسها وحيدة فمارست الضغوط والحرمان والقوة في السياسة بشتى أشكالها، بما في ذلك استخدام الفيتو (تجديد القوات الدولية في البوسنة والهرسك) ليتحصن رعاياها حصانة كاملة من المحكمة الجنائية الدولية.

فما هي حكاية الولايات المتحدة الأمريكية مع هذه المحكمة التي طالما طالبت بتشكيلها في السابق ..؟

أولاً: موقف الولايات المتحدة الأمريكية من المحكمة الجنائية الدولية:

1-بعد الحرب العالمية الثانية اقترح بعض قادة الدول المنتصرة (الحلفاء) في الحرب تنفيذ الإعدام في حق قادة جيش الرايخ الثالث، لم توافق الولايات المتحدة على هذا المقترح وأصرت على أن السلام لايمكن أن يدعم إلا من خلال محاكمة هؤلاء أمام محكمة دولية لمخالفتهم قواعد القانون الدولي، وهذا الموقف أدى إلى ترسيخ قاعدتين مهمتين:

أ-إن قواعد القانون يجب أن تعلو على قواعد القوة.

ب-إن من يقترف الجرائم أفرادا وليسوا دولا، وأنه يجب أن يسأل هؤلاء وأن توجه إليهم تهم وأن يحاكموا تأسيسا على المساءلة الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية الجسيمة، كما وانه يجب ألا يتخذ من عمل الدولة أو أوامر الرئيس إلى المرؤوس حجة أو ذريعة أو أساسا للدفاع.

وجدير بالذكر أن رئيس الادعاء في محكمة نورمبرج كان قاضيا بالمحكمة العليا الأمريكية ويدعى روبرت جاكسون وهو الذي قال قولا شهيرا:”إن أربعة دول وهي في ذروة الانتصار ورغم جروح الحرب تعطل يد الثأر وتقوم بإرادتها بتقديم العدو الأسير إلى المحاكمة، إن هذا العمل هو مثال مهم بموجبه سلمت فيه القوة للعقل”.

2-وفي عام 1947 طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من لجنة القانون الدولي البحث عن إمكانية تأسيس غرفة دولية لتختص بنظر الجرائم التي يرتكبها الأفراد استنادا إلى المسؤولية الجنائية الدولية للفرد (عكس محكمة العدل الدولية التي لا يمثل أمامها إلا الدول).

وفي عام 1951 قدمت اللجنة مشروع محكمة جنائية دولية، إلا أن الحرب الباردة وضغوطاتها وانقسام العالم إلى قطبين جعل من هذا المشروع تحيزا وما تولد عنها من تنافس في القضاء الدولي أدى إلى الاستخدام التعسفي لحق النقض قد أحبط أي أمل في تشكيل محكمة دولية.

3- وبعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمة نورمبرج والتفكير بصوت عال في تأسيس محكمة جنائية دولية عرف القانون الدولي قفزة نوعية تتمثل في إبرام اتفاقيات دولية، تجرم أفعال جسيمة وتعتبرها جرائم دولية.

– اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية 1948 (في إطار الأمم المتحدة) لتصبح جريمة يعاقب عليها أمام المحاكم الوطنية أو الدولية .

– اتفاقيات جنيف الأربع 1949 التي قننت مجمل قواعد الحرب وأكدت على مسؤولية الفرد عن الانتهاكات الجسيمة لقواعد الحرب.

– اتفاقية عدم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية (1968).

ولعل أهم ما تضمنته هذه الاتفاقيات الدولية هي النص على مبدأ (الاختصاص العالمي) وهو يعكس فكرة أن أفعال جسيمة معينة بالمخالفة للقانون الدولي تشكل جرائم ضد المجتمع بأكمله بعض النظر عن مكان وقوعها أو جنسية مرتكبها وأن لأي دولة الحق بل والالتزام على محاكمة مرتكبيها (بيتوشيه/ شارون).

4- أما عامل الدفع الآخر والذي كانت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان الباعث من ورائه فهو إنشاء محاكم دولية خاصة، منها ما هي ذات طابع دولي خاص، وأخرى مختلطة وهي محاكم تشكلت بقرارات من مجلس الأمن لعل أهمها محكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (1993) المحكمة الجنائية الدولية لرولندا (1994) ثم بعد ذلك المحكمة الخاصة سيراليون (2000) ومشروع محكمة كمبوديا (اتفاقية مع الأمم المتحدة 2003) وأخيرا المحكمة الخاصة بلبنان (2006) كما أن الولايات المتحدة سعت سعيا حثيثا إلى تأسيس محكمة دولية خاصة فيما بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لمحاكمة جرائم دار فور في تنزانيا وذكرت أنها ترفض إضفاء المشروعية على المحكمة الجنائية الدولية بإحالة مرتكبي الجرائم إليها رغم تقرير لجنة التحقيق المشكلة من الأمم المتحدة والتي أوصت بإحالتهم إلى المحكمة الجنائية الدولية وبعدم تشكيل محكمة خاصة لأسباب عديدة وردت في التقرير منها التأخير والتكلفة العالية.

5-وفي عام 1994 أعلنت الإدارة الأمريكية في عهد كلينتون أنها تدعم تأسيس محكمة دولية دائمة لتكون عنصرا ًمهماًلسياسة خارجية موجهة لمنع وقوع جرائم (أثنية) عرقية مستقبلا.

كل العوامل التي بينها أعلاه والتي كانت الولايات المتحدة الأمريكية عاملا أساسيا من ورائها بل باعثا عليها أحيانا ومع عمل وتطور المحكمتين الخاصتين (يوغسلافيا ورواندا) خاصة وان الولايات المتحدة الأمريكية دعمت هاتين المحكمتين ماديا إضافة إلى الدعم الدبلوماسي والعسكري لتقوية فعاليتهما، خاصة وانه تبين من خلال أدائها مواطن القوة (الذي تمثل في العمل المهني الجاد والأداء العالي لجهازها) والضعف فيهما (إنهما مخلوقين من رحم مجلس الأمن يخضعان لعوامل وضغوط وحسابات سياسية وعالمية وتأخير مسيس ومتعمد) كل ذلك دفع إلى ظهور توجه دولي ورغبة في تأسيس محكمة جنائية دولية دائمة.

6-شاركت الولايات المتحدة الأمريكية بفاعلية في مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية عن الفترة من 15 يونيو وحتى 17 ناصر / يوليو 1998 بوفد رفيع المستوى والذي تمخض عنه إبرام اتفاقية روما في 17- 7 – 1998 وكان توجه الوفد الأمريكي فرض العديد من المسائل لتكون هيكل المحكمة الجديدة ولعل أهم قطعة من هذا الهيكل الذي سعت الولايات المتحدة لفرضه وفشلت في فرضه هو أن لا ينعقد اختصاص المحكمة إلا من خلال مجلس الأمن الدولي لتصبح الولايات المتحدة المتحكمة من خلال الفيتو هي قناة الاختصاص تلك.

ورغم أن دول أربع أخرى تتمتع بحق النقض أمام مجلس الأمن إلا أن أي منها لم تتبن هذا الموقف المتشدد وحين عجزت الولايات المتحدة عن فرض ذلك وذكر رئيس الوفد الأمريكي شيفر (أن الولايات المتحدة لم تصل إلى الرصاصة الفضية التي تضممن حماية المواطنين الأمريكيين التي حاول العديد من الموظفين بإدارة بيل كلنتون الحصول عليها لسنوات عديدة).

7-وفي آخر يوم من الفترة المحددة للتوقيع على الاتفاقية بتاريخ 31 – 12 – 2000 أذن بيل كلينتون في آخر أيامه آنذاك (وقبل ثلاثة أسابيع فقط من التنصيب الرسمي لبوش) بالتوقيع عليها، إلا أن الهدف من التوقيع لم يكن قط الالتزام بها أو الرغبة في التصديق عليها لاحقا، وإنما وكما أعلن كيلنتون نفسه بمناسبة التوقيع عليها (إننا بالتوقيع على الاتفاقية لا نهجر موقفنا القلق من الغموض الوارد في الاتفاقية وخاصة ذلك المتعلق بواقعة أنه ما أن تصبح المحكمة حقيقة واقعة فإنها لن تمارس اختصاصها على مواطني الدول التي تصدق عليها إننا بموجب هذا التوقيع سنكون في موقف يسمح لنا بالتأثير على تطور المحكمة وبدون توقيع لن يكون لنا ذلك) وأضاف )إنني لن أوصي خليفتي بإحالة الاتفاقية إلى مجلس الشيوخ للرأي والموافقة).

لم يأخذ جورج بوش بنصيحة سلفه بل ذهب إلى ابعد من ذلك حين قام في 6 – 5 – 2002 بإعلام الأمين العام للأمم المتحدة رسميا بأن (الولايات المتحدة لا ترغب في أن تصبح طرفا في الاتفاقية) و (أنها تتنصل من أية التزامات قانونية نشأت عن توقيعها في 31 – 12 – 2000).

8- وهكذا يمكن القول بأن الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية كانت تدعم فكرة المساءلة الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية الجسيمة التي ترتكب بالمخالفة لقواعد القانون الدولي إلا أنها ومنذ ذلك التاريخ حتى وان ساهمت كغيرها من الدول بل وأحيانا بشكل أقوى في تطوير هذه الفكرة لحد الوصول إلى تأسيس محكمة جنائية دولية، إلا أنها كانت دائما حذرة ورأيها أن اختصاص محكمة كهذه يجب أن يخضع لسيطرتها وأن تكون وسيلة لمحاكمة الآخرين عدا رعاياها وهكذا دعمت محاكم جنائية دولية خاصة ورفضت محكمة جنائية دولية دائمة.

وعليه يمكن تلخيص الموقف الأمريكي تاريخيا في أن الولايات المتحدة لم تكن قط ضد فكرة تأسيس محكمة جنائية دائمة بل أن موقفها منذ عام 1995 وحتى عام 2002 كان يتسم بقبول فكرة محكمة دائمة شريطة أن تكون تحت سيطرة مجلس الأمن الدولي إلا أن موقفها أصبح يتسم بالعدائية منذ عام 2002 وتحديدا 6 – 5 – 2002 وهو تاريخ سحب الولايات المتحدة لتوقيعها على الاتفاقية وتصريح وزير دفاعها آنذاك عقب الانسحاب دونالد رامسفيلد أن المحكمة تعتبر غير مشروعة ثم إعلانها في ذات السنة عن إبرام اتفاقيات ثنائية مع الدول الأخرى لمنعها من تسليم رعاياها إلى المحكمة ثم إصدار تشريع وطني يعرف قانون حماية الموظفين الأمريكيين في عام 2002 والذي ينص على فرض عقوبات على الدول التي ترفض إبرام اتفاقية ثنائية بل ذهب إلى أبعد من ذلك بالتدخل عسكريا لمنع أية دولة من تسليم رعايا أمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية ثم بعد ذلك صدر قانون آخر يعرف بتعديل “نذركت” في عام 2004 الذي يمنع تقديم التمويل المعروف بـــــ يوسيد عن الدول التي ترفض إبرام الاتفاقيات الثنائية وهو صندوق يمول التنمية الاقتصادية وبرامج التعليم وبناء السلام في دول العالم الثالث.