سنحاول إعطاء فكرة عامة عن المحكمة الجنائية الدولية،وقد رأينا ملاءمة أن يكون ذلك من خلال طرح بعض الأسئلة والإجابة عنها على النحو التالي:
د.محمد هاشم ماقورا
الجزء الاخير
سابعا: ما هي الجرائم التي تدخل ضمن الاختصاص الموضوعي للمحكمة؟وماذا عن جريمة العدوان؟:
حددت المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،الجرائم التي تدخل دائرة الاختصاص الموضوعي للمحكمة في الوقت الراهن-وسوف يستمر هذا الوضع إلى حين انعقاد المؤتمر الاستعراضي للنظام الأساسي المقرر عقده في عام 2009 طبقا للضوابط الوارد ذكرها في المادة 126 من نظام روما الأساسي – وقصرتها على اشد الجرائم خطورة على أمن وسلم المجتمع الدولي : وهي الإبادة الجماعية ،وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية ،وجريمة العدوان. وفي هذا السياق ،تجدر الإشارة إلى أن جريمة العدوان وان أدرجت فعلا ضمن الجرائم الداخلة في الاختصاص الموضوعي للمحكمة وفقا للمادة 5 /1 من نظام روما الأساسي ، الا أنها أدرجت منقوصة ،ذلك لان الفقرة 2 من نفس المادة 5 المشار إليها أعلاه، نصت على أن ممارسة المحكمة لاختصاصها بشأن جريمة العدوان معلق على تحقق شرطين ما يزالان إلى حد اللحظة واقفين،وهما:
أ) تعريف العدوان .
ب) تحديد العلاقة بين مجلس الأمن وممارسة المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصها بجريمة العدوان.
ثامنا: هل ستحاكم المحكمة الجنائية جميع الأشخاص، بمن فيهم الأشخاص الاعتبارية؟:
الواقع أنه على الرغم من أن الجرائم التي تدخل ضمن دائرة الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية ،تعد من أخطر الجرائم على الإطلاق ،وأن عدداً اًمنها غالبا ما يرتكب أما بتحريض من أشخاص معنوية ،أو لمصلحتها (جريمة العدوان نموذجا) ،فإن المادة 25 /1 من نظام روما الأساسي نصت على أن:( يكون للمحكمة اختصاص على الأشخاص الطبيعيين فحسب، عملا ًبهذا النظام الأساسي ). ويستفاد مما تقدم ،أن الأشخاص المعنوية جميعها – دول كانت أم هيئات اعتبارية – سوف لن يكون للمحكمة الجنائية الدولية اختصاص عليها في الوقت الراهن على الأقل .ولهذا فان المسؤولية الجنائية محصورة بموجب نظام روما الأساسي في مجال المسؤولية الجنائية للفرد فحسب ،ما لم يحصل تطور في هذا الشأن في المؤتمر الاستعراضي الذي سيعقد وفقا للضوابط المنصوص عليها في المادة (123) من نظام روما الأساسي في عام 2009 .
تاسعا:ما هي حدود العلاقة بين القضاء الجنائي الوطني في الدول الإطراف في نظام روما الأساسي،والمحكمة الجنائية الدولية؟:
لعل السؤال الذي يدور في الذهن في هذا السياق هو:هل أنشئت المحكمة الجنائية الدولية لكي تكون بديلا ًعن القضاء الوطني في الدول الإطراف ؟ وبعبارة أخرى:هل أنشئت المحكمة الجنائية الدولية لكي تحتكر مستقبلا اختصاص النظر في الدعاوى الناشئة عن الجرائم الواردة في المادة(5 /1 ) من نظام روما الأساسي ،أم أن الاختصاص مشترك ؟.
الواقع أن موضوع العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والنظم الوطنية،عالجته الفقرة (10) من ديباجة نظام روما،وكذلك مادته الأولى ويستفاد من مجمل ما ورد فيهما ،مايلي :-
أ) أن اختصاص النظر في الدعاوى الناشئة عن الجرائم الواردة ذكرها في المادة الخامسة من نظام روما،اختصاص مشترك بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الجنائي الوطني في الدول الإطراف.
ب) اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليس بديلا البتة عن الاختصاص القضائي الجنائي الوطني،فالعلاقة بين هذا الأخير وقضاء المحكمة الجنائية الدولية يقوم على أساس مبدأ التكامل .
ج) الاختصاص الجنائي الوطني في الدول الإطراف في نظام روما ،تكون له دائما الأولوية أو الأسبقية على اختصاص المحكمة الدولية(عكس ذلك بالنسبة للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة حيث الأسبقية والدولية تكون دائما للمحكمة الدولية .
د) وفقا لمبدأ التكامل ،تستطيع المحكمة الجنائية والأولوية ممارسة اختصاصها في حالات محددة فحسب .هي :
1- الانهيار الكلي للنظام القضائي الوطني ،أي عجز أو عدم قدرة المحاكم الوطنية عن محاكمة الأشخاص المشتبه بهم .
2 – عدم رغبة الدولة حقاً في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة .ج) إذا لم تكن المحاكمة أمام القضاء الوطني نزيهة أو مستقلة ،أو صورية ،أي كان الغرض من اجرائها مجرد تمكين الشخص من الإفلات من العقاب.
عاشراً:هل ستطبق المحكمة الجنائية الدولية عقوبة الإعدام ؟:
ورد التأكيد أكثر من مرة في ديباجة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (الفقرات 2 و3و4 من الديباجة) على أن الجرائم التي تمارس اختصاصها عليها جرائم خطيرة للغاية تهدد السلم والأمن والرفاه في العالم ،كما أنها تعد أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره.
غير أن من يطلع على المادة 77 من النظام الأساسي التي تعالج موضوع العقوبات الواجبة التطبيق،سيتضح له بجلاء أن المحكمة بوسعها- طبقا لإحكام المادة 77 سابق الإشارة إليها – أن تبقي على الشخص المدان بارتكاب جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص واحدة فحسب من العقوبتين الأصليتين التاليتين :
أ) عقوبة السجن لعدد،محدد من السنوات لفترة أقصاها 30 سنة .
ب)السجن المؤبد ،في حدود ضيقة،حيثما تكون هذه العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة وبالظروف الخاصة بالشخص المدان.
كما جوازا للمحكمة فضلا عن ذلك أن تأمر بالعقوبات التكميلية (الإضافية) التالية .
الغرامة وفقا للمعايير المنصوص عليها في القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات !
مصادر العائدات والممتلكات والأصول المتأتية بشكل مباشر أو غير مباشر من الجريمة .
ومما لا شك فيه أن المقارنة بين ما ورد في ديباجة النظام الأساسي للمحكمة في شأن التأكيد على الخطورة البالغة للجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة، وما ورد في المادة 77 سابق الإشارة إليها أعلاه في شأن نظام العقوبات الذي لم يشمل النص على عقوبة الإعدام ،ستوقع البعض في حيرة ،وقد يقود ذلك الربط إلى الاعتقاد بأن عدم النص على عقوبة الإعدام يشكل ثغره في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وينبغي العمل قدر الإمكان على سردها في المؤتمر الاستعراضي المقررعقده تطبيقاً لما ورد فى المادة 123 الأساسي في عام 2009 .
ودون الدخول في تفاصيل قد تخرجنا عن نطاق الحدود المرسومة لهذا البحث،نود الإشارة فحسب إلى أننا نؤيد وجهة النظر هذه ،ذلك لان عقوبة الإعدام تشكل دون جدال الرادع الأقوى والأكثر فاعلية مرتكبي تلك الجرائم الدولية الخطيرة.
وفضلا عما تقدم تجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن عدم النص على عقوبة الإعدام في نظام روما الأساسي يعد واحدا من أهم الأسباب التي دفعت عديد الدول إلى الإحجام عن توقيع النظام الأساسي في الفترة التي كان فيها باب التوقيع مفتوحاً ،أو إلى التريث في التصديق أو الانضمام إليه لحد الآن.
وما دمنا في معرض الكلام عن موقف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من عقوبة الإعدام، جدير بالذكر هنا أيضا أن المادة (80) من نظام روما الأساسي ، التي تحمل عنوان :عدم المساس بالتطبيق الوطني للعقوبات والقوانين الوطنية ،نصت على أنه( ليس في هذا الباب من النظام الأساسي ما يمنع الدول ا(لإطراف طبعًا) من توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية أو يحول دون تطبيق قوانين الدول التي لاتنص على العقوبات المحددة في هذا الباب ).
ومعنى ما تقدم هو،أنه إذا كان قانون العقوبات في واحدة من الدول الإطراف في نظام روما ينص على تطبيق عقوبة الإعدام على مرتكب واحدة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 5 من نظام روما .
( الإبادة الجماعية ،جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ) ، فليس ثمة ما يحول دون توقيع هذه العقوبة من قبل القضاء الوطني إذا مارس اختصاصه بشأنها تطبيقاً لمبدأ التكامل الذي يعطي الأولوية – كما أشرنا من قبل – للمحاكم الوطنية !.
حادي عشر : ما هي الالتزامات التي يفرضها النظام الأساسي على الدول الإطراف في نظام روما الأساسي ؟ وهل ثمة التزامات تتحملها الدول غير الإطراف في الاتفاقية وإذا كانت الإجابة بالإيجاب ،فهل مصدر هذه الالتزامات هو النظام الاساسي ذاته أم ميثاق الأمم المتحدة،أم غيرهما؟من المعلوم أن المحكمة الجنائية الدولية تركزت على مبدأين أساسين: أولهما مبدأ التكامل وثانيهما مبدأ التعاون .
والواقع أن كل و أحد من هذين المبدأين يرتب التزامات عدة على الدول الإطراف في نظام روما الأساسي . ويمكن القول بأن أهم هذه الالتزامات هي :
الالتزامات ذات العلاقة بمبدأ التكامـل :
1- يجب على كل دولة طرف أن تدخل ما هو ضروري من تعديلات على تشريعاتها الوطنية لضمان تغطية وتجريم كافة الوقائع المجرمة بموجب المواد :5 و 6 و 7 و8 ومن نظام روما الأساسي .
2- ينبغي على كل دولة طرف أيضا ،رفع كافة القيود الإجرائية التي قد ينص عليها القانون الوطني،والتي قد تحول دون ملاحقة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية ،وجرائم الحرب،والجرائم ضد الإنسانية . ومن قبيل هذه القيود الشكوى والطلب والإذن.
3- ينبغي أن تحرص الدول الإطراف على أن تتفق تشريعاتها فيما يتعلق بالجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية – مع المادة 29 من نظام روما الأساسي التي تنص على أنه لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص الاساسى التى تنص على أنه المحكمة بالتقادم أيا كانت أحكامه ).
4-تطبيقاً للمادة 27 من نظام روما الأساسي (عدم الاعتداد بالحصانات) ،يجب على كل دولة طرف ترغب في أن تتجنب إقدام المحكمة الجنائية الدولية على ممارسة ولايتها القضائية على الحالات التي يتبين أن الجهات المعنية في الدولة الطرف تحقق فيها أو تقيم الدعوى القضائية بشأنها ،أن تضمن إلغاء أية حصانات يمنحها قانونها الوطني لمرتكبي الوقائع التي يجرمها النظام الأساسي بناء على صفتهم الرسمية.
5- المحاكمات التي تجريها المحاكم الوطنية،للأشخاص المتهمين بارتكابهم لوقائع يجرمها نظام روما الأساسي يجب أن تتفق في جميع المراحل الدعوى مع المعايير الدولية للمحاكمة العادلة،والتي ورد النص عليها في صكوك دولية نذكر منها على سبيل المثال :المواد 9 و 14 و 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسة ،وكذلك أيضا المواد 55 و62 و 68 من نظام روما الأساسي .
ب- الالتزامات ذات العلاقة بمبدأ التعاون .
تنص المادة 86 من نظام روما الأساسي على أن (تتعاون الدول الإطراف تعاوناً تاما مع المحكمة فيما تجريه،في إطار اختصاص المحكمة ،من تحقيقات في الجرائم والمقاضاة عليها ).
ومعنى هذا أن الدول الإطراف،عليها أن تضمن وتمكن المدعي العام للمحكمة من إجراء تحقيقات جدية وفعالة في أقاليمها .كما يجب على محاكمها وأجهزتها الأخرى ذات العلاقة أن تتعاون تعاوناً كاملا مع المحكمة في الحصول على الوثائق، ومعرفة الأصول التي يحوزها المتهم ومصادرتها،وإجراء التحريات وضبط الأدلة، والبحث عن الشهود وتوفير الحماية لهم،والقبض على الأشخاص الذين تتهمهم المحكمة بارتكاب جرائم تدخل في اختصاصها وتقديمهم إليها !.
هذا عن الالتزامات التي تتحملها الدول الإطراف ولكن ماذا عن الدول غير الإطراف في نظام روما الأساسي ؟ الواقع أنه فضلا عن أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن يمتد ليشمل رعايا دول غير إطراف في نظام روما الأساسي (م 12/ 2ب) في حال ارتكابهم إحدى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة في إقليم دولة طرف،أو على متن طائرة أو سفينة مسجلة في تلك الدولة فإن الدول غير الإطراف قد تجد نفسها ملزمة بالتعاون تعاونا كاملا مع المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام ،وأن تقدم لهما كل ما يلزم من مساعدة وتسهيلات (رغم كونها ليست دولة طرف في نظام روما الأساسي ) ، وذلك في حالتيـن :
أ- إذا أحال مجلس الأمن،متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة،حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم التي ورد النص عليها في المادة 5 من نظام روما الأساسي قد ارتكبت،وبعبارة أخرى إذا قدم مجلس الأمن شكوى إلى المدعي العام للمحكمة بناء على قرار يتخذه بالخصوص (م 13 /ب من نظام روما الأساسي ). ب- إذا أبدت الدولة غير الطرف استعدادها وقبلت على أساس ترتيب خاص أو اتفاق يبرم بينهما والمحكمة الجنائية الدولية أن تتعاون مع المحكمة مؤقتا فيما تجريه – أي المحكمة – من تحقيقات ومقاضاة بخصوص جريمة محددة أو قضية بالذات ،بشرط أن تكون هذه الأخيرة هي محل الترتيب الخاص أو الاتفاق المسبق مع المحكمة (م 12/3 من نظام روما الأساسي ).
ولسنا في حاجة إلى بذل جهد كبير ،لكي نتوصل إلى استنتاج أن مصدر التزام الدولة غير الطرف مع المحكمة في هذا الفرض،ليس نظام روما الأساسي ،وإنما الاتفاق المبرم بالخصوص بين الدولة غير الطرف والمحكمة .