لعل من أهم ما يواجه الأمة العربية اليوم -إضافة إلى تحديات كبرى- هو إشكالية المواجهة بين حقيقة الأمة الواحدة ( (المأمول) وواقع تعدد الدولة القطرية(القائم
وتعدد الدولة العربية صاحبته ظاهرة أخرى من شأنها أن تهدد الأقطار العربية بالتباعد، والتشتت، والفرقة، وذلك عبر تبني نماذج ( دستورية) قلما يتفق منها اثنان في الشكل، وفي الممارسة .
وتذهب بعض الأدبيات السياسية والقانونية المعاصرة، في الوطن -الأمة- إلى الاعتراف (خطأ) بالدولة القطرية العربية كإحدى المسلمات ضمن منظومة الفكر السياسي والدستوري العربي
ولقد وصل الأمر إلى حد أن وجدت الدولة القطرية (العربية) نفسها في تناقض في المصالح، وتشعب في الرؤى، واختلاف في التحليلات، مع الدولة العربية الأخرى في الوطن الواحد، وذلك استناداً إلى تعدد الدولة، رغم وحدة الأمة .
ولقد زادت المسألة تعقيداً في زمن (العولمة) والتي أثرت على الموقف من حقوق الإنسان وعلى المرجعيات الداعمة في عملية متشابكة يتفاعل فيها بني البشر في ظل مجتمع متقارب مادياً، وتجارياً، وتقنياً، ويتباعد – في ذات الوقت- عرقياً، ولغوياً، ودينياً، فالعولمة بعبارة “انتوني جينز” هي عملية لحام لمجتمعات العالم لكي تنصهر في بوتقة واحدة مهما تباعدت بينها المسافات، ويتشارك فيها كل البشر في الرؤى، والخبرات، والتحديات .
لذلك فإننا نرى أن العولمة -بأي تعريف ترد- تؤثر حتماً على مستويات الأداء الوظيفي للأنظمة السياسية الوطنية، وعلى الأفراد، وعلى مؤسسات المجتمع المدني، من خلال التنافس من أجل السيطرة على القرار في الدولة، وفي مؤسساتها، إلا أن حدة العولمة تظهر -تحديداً- في أن منظومة قواعد حقوق الإنسان صارت -واقعياً- خاضعة لسلطات غير الدولة، ولصالح قوى دولية، فدور الدولة بدأ في التراجع، أما عولمة المفاهيم والمضامين وتجاوز كل مفاهيم الدولة والأمة، والجنسية (المواطن) والإسهامات التاريخية للأمم وللحضارات ، فأنها أثرت على ازدهار منظومات حقوق الإنسان، وأصابتها بالوهن وبالتناقض .
وفي مجال حقوق الإنسان في الوطن العربي فإن القراءة الموضوعية (في المقابل) قد بينت أن الثقافة العربية -الإسلامية قد اعترفت (بل، وطورت) باتجاهات إنسانية في أزمان متباعدة على مدى حقب تاريخية ممتدة إلا أن التاريخ العربي الإسلامي (والحق يُقال) قد مر بفترات غير مشعة أدت (عملياً) إلى طمس انجازات هذه الحضارة في ميادين احترام حقوق الإنسان من خلال فترات الغزو والاحتلال وممارسات الدولة الوطنية .
أما تاريخ الأمة العربية المعاصرة، فقد اخترقته ظروف قاسية وعصيبة، وصاحبت ذلك ردود أفعال اكتست طبيعة التشنجات الفكرية والتنظيمية، واضطربت فيه قيم الأولويات، وكان ذلك نتيجة اكتساحات المد الاستعماري، وطغيان الغزو الأجنبي، وقسوة الظاهرة الاستعمارية .
وهذه المعطيات قادت إلى تراجع الانجازات الثقافية العربية في شتى المجالات، وبالتحديد منها ثقافة حقوق الإنسان .
وكان مما ساهم في هذا الضعف (الحضاري) ترسخ حقيقة الدولة القطرية، وتنامي ظاهرة الاغتراب الفكري، والحيرة ما بين تاريخ مشع، وحاضر قاسٍ، ومستقبل غير آمن .
فانعكس ذلك كله على مجمل المواقف، والسياسات، والاستراتيجيات، وتبلورت إشكاليات حقيقية في ميادين العلم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والقانون، وصارت الدولة العربية تعيش انفصاماً في الشخصية (القومية) ما بين تطلعات مشروعة (ولكنها مؤودة) وواقعية تبعية (ولكنها مفهومة ).
ثانياً : الهيمنة والشكل السياسي للدولة العربية :
2..إننا نعتقد أنه ومنذ بداية ظهور الدولة العربية المعاصرة (أواسط القرن العشرين) في شكل كيانات (غير مشروعة) بالمفهوم القومي، ولكنها قد تكون (شرعية) بالمفهوم القانوني (الدساتير)، تبلورت العديد من العناصر كان من شأن تفاعلها وتداخلها -وأحياناً- تضاربها، أن تم تأسيس نوع من الاضطراب في الشكل السياسي للدولة العربية المعاصرة، وفي مؤسساتها (الرسمية، والمدنية) وفي كافة برامج التطوير والإصلاح، وفي المنظومة القانونية المعنية بحقوق الإنسان .
تلك العوامل أدت إلى تذبذب شخصية الدولة القانونية، وضعف فعالية هياكلها، وبالتالي عدم ثبات أدوات الحكم فيها، فكان أن تعددت (الدولة) على حساب “وحدة الأمة” وبذا توزع التأثير الإشعاعي الجمعي (الحضاري) بين العديد من الوحدات السياسية العربية المتناثرة، وتناحرت بعضها مع البعض الآخر، فضعف دور الأمة، وتراجع إسهامها الإيجابي، ولم يتحقق للفرد -الإنسان- طموحات الحرية والمساواة وازدهار المجتمع المدني .
ولم يكن واحد فقط من هذه العناصر سبب أزمة “الدولة العربية” أو مصدر اضطراب شكلها السياسي ، وبالتالي دورها الحضاري في مجال حقوق الإنسان، بل إن تداخلها جميعها وتفاعلها السلبي -وأحياناً- تناقضها مع معطيات الجغرافيا، وحقائق التاريخ، والاختلاف في مرجعية تشريعات حقوق الأفراد، هو الذي أدى إلى (فولكلورية) شكل الدولة في الوطن العربي لينعكس (سلباً) على مجمل منظومة حقوق الإنسان .
وليس معنى ذلك أننا نطالب بأن تكون الدولة العربية المجزأة نسخة (كربونية) من نموذج واحد، أو أن تكون صدى لنماذج الدولة الاستعمارية، أو أنها تستند إلى قيم لا تمت بصلة للمنظومة الاجتماعية، والأخلاقية للمجتمعات العربية، فالعيب ليس في اختيار كل دولة عربية لنظام الحكم، وطبيعته، وإنما الإشكالية تكمن في ذلك التنافر الحاد ما بين توجهات الأنظمة العربية السياسية، وغياب النظرة القومية ذات البُعد الاستراتيجي، إن أوروبا مختلفة الأنظمة السياسية (ملكية- جمهورية) ومتعددة في الشكل الدستوري (دول بسيطة، وأخرى مركبة) إلا أنها سعت إلى بناء وحدة اقتصادية، قانونية، رغم اختلاف، بل وتعدد الأنظمة الاجتماعية والثقافية وحدة النزاعات التاريخية .
ولعل التعرض ،بإيجاز ،لبعض لتلك العناصر التي أسهمت في ضعف دور الأمة العربية في مجال ازدهار حقوق الإنسان ،قد يلقي الضوء على أهمية الإشكاليات المطروحة .
ثالثا : ضعف الإسهام العربي في حقوق الإنسان :
3..إن جمود التفكير الإبداعي العربي وتعطيل إسهاماته المشرقة في مناحي الحياة الحضارية، وتراجع انطلاق الفكر، والمستلهم من التاريخ العربي -الإسلامي- والابتعاد عن ترسيخ دولة القانون، وعدم فاعلية مؤسسات المجتمع المدني، وكذا العجز عن مواكبة التطور العلمي، وفق آلية عقلانية، تربط الماضي بالحاضر، وتتطلع لاستشراف المستقبل، تلك هي أسباب أضعفت قدرة الأمة العربية عن المساهمة في صناعة التاريخ البشري، وهي التي – وباعتراف الحضارة الإنسانية- قد أعطت أفضل لبنات التراث الإنساني، وأسهمت (عبر أزمان مضيئة) في كتابة تاريخ العالم، وبالمنهج الارتدادي، صرنا أمام حقيقة تاريخية تفرض نفسها وهي أن المثقفين ومراكز البحث العلمي في أوروبا في العصور الوسطى هم من نتاج المثقفين، ودُور العلم في الحضارة العربية الإسلامية، بينما تحول أغلب المثقفين العرب (اليوم) إلى منتمين إلى الحضارة الغربية ..!!
وكان من نتيجة هذا الضعف أن خرج الفكر العربي (بالمعنى الشامل) من مجال دائرة القدرة على التأثير في المسار، وفي الأنساق، وفي الأحداث في صيرورة الحضارة الإنسانية، بل إن خروجه من دائرة الفعل طال ذاته، فلم يستطع تجاوز بعض محنه، وصعوباته، وانكساراته، كما أنه لم يستطع الإبداع في انطلاقاته السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتقنية، بل ولم يستطع أن يقيم بخطواته الإصلاحية، ورغم التراث الحضاري (العربي – الإسلامي) في مجال التنظير لحقوق الإنسان، إلا أن واقع الممارسة الفعلية قد بين تأخر المنظومات القانونية(في الدول العربية) عن المنظومة الغربية في مجال المشاركة الايجابية في مجال حقوق الإنسان .
4.. إن هذا العجز وذلك الجمود أديا إلى المساس بأنماط التفكير في اختيار الأدوات التي من شأنها استنهاض الهمم، والارتقاء بالمفاهيم، وبالتشريعات وبالضمانات والآليات الكفيلة باحترام حقوق الإنسان، وبالتالي انتقل ذلك التأثير السلبي (كنتيجة) إلى مرحلة أشكال الإدارة المؤثرة في هيكلية الدولة، ومن تم في اختيار النموذج (القانوني- الدستوري) الصالح للمواطن العربي، كما تأخر البحث عن الطابع الفريد للشكل السياسي للدولة، والذي كان يفترض أن يتضمن بالضرورة ترجمة للواقع القائم في معطياته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والذي تطمح إليه إرادة الإنسان العربي، وتحديداً التركيز على الإنسان باعتباره المورد البشري الحاسم في كل الاختيارات .
إن النقاش حول علاقة العولمة بحقوق الإنسان والعرب هو ذات موضوع الجدل الذي ميز الحوارات عبر أزمان ماضية، إذ أن المعضلة إنما ترتبط بمكانة وطبيعة الحوار حول (الثقافة) وذلك على اعتبار أن (حقوق الإنسان) مكون ذو طبيعة ثقافية .
إننا نخوض (مع بداية القرن الحادي والعشرين) نفس المجادلة، مع الاعتراف أنها (اليوم) أشد صعوبة، فالصراع في ميادين حقوق الإنسان لا يعدو أن يكون صراعاً ثقافياً، وليس صداماً حضارياً (وهي نظرية نرفضها من منطلقات حق الإنسان في التنوع)، فالاختلاف (وهو طبيعي) يتأسس حول العلاقة ما بين الثقافة السائدة (في الوطن العربي)، وبعض مظاهر الثقافة النقيض (ثقافة الاستقلال، وثقافة التبعية) ثقافة الأصولية، وثقافة العلمانية، ثقافة حق تقرير المصير، وثقافة مكافحة الإرهاب .
وتعدد الدولة العربية صاحبته ظاهرة أخرى من شأنها أن تهدد الأقطار العربية بالتباعد، والتشتت، والفرقة، وذلك عبر تبني نماذج ( دستورية) قلما يتفق منها اثنان في الشكل، وفي الممارسة .
وتذهب بعض الأدبيات السياسية والقانونية المعاصرة، في الوطن -الأمة- إلى الاعتراف (خطأ) بالدولة القطرية العربية كإحدى المسلمات ضمن منظومة الفكر السياسي والدستوري العربي .
وفي تزاحم الأضداد تأتي أطروحة الإصلاح الأمريكية لتجعل من منظومة القيم الأمريكية هي ثقافة المجتمع الدولي، وهو ما يعني (نظرياً، وواقعياً) الاعتداء على قيم حقوق الإنسان القائمة على التنوع ما بين البشر في الأعراق، وفي اللغات، وفي الأجناس، وفي المرجعيات، لذلك كان لابد من أن تحدث مقاومة عنيفة ليس ضد المفهوم، وإنما ضد الأنماط، والمضامين، والطريقة التي يُراد أن تفرض بها .
وفي هذا السياق تنامى تيار الإنكفائية والانغلاق، وزادت حدة نزعات التصدي لكل ما هو آت من الآخر، وهو أمر قاد إلى العديد من الإشكاليات .
إن هذه الإشكالية أفرزت لنا جملة من التداعيات، لعل أبرزها تراجع الإبداع في مجالات حقوق الإنسان، والعلم، والفنون، والاختراعات، والفلسفة، والفكر، والتقنية، وفي الدبلوماسية، وفي الدور الحضاري إجمالاً، وفي أغلب البرامج التنموية، فعاش الوطن العربي (بدوله المتعددة) مرحلة من التخلف عن ركب الأمم المتقدمة .
5 .. أن المعضلة في هذا العصر (التخلف) تمكن في استمراريته في الزمان، وانتشاره في المكان (بمعنى أنه لم يستثن أي قطر عربي) ونيله من الإنسان، فقد امتدت فترة الجمود طوال قرون، واستفحل الأمر مع بداية القرن التاسع عشر، وطيلة القرن العشرين، رغم المحاولات العديدة( وأحياناً -الجادة) للخروج من دائرة الظلمة إلى عصر “النهضة العربية” ولقد جسدت حركة الإنسان العربي حقيقة الرغبة في كسر حاجز الجمود والحد من التردي، والتصدي للانتهاكات المبرمجة للحريات العامة، وحقوق الإنسان العربي، والتي تجرى من الدولة الوطنية، ومن القوى الخارجية، وتم ذلك عبر مناداته بالقيام بثورات تحررية، ومقاومة الاحتلال، والوقوف في وجه السيطرة الاستعمارية، والدفع في اتجاه الإصلاح الشامل، وتأسيس دولة القانون، وفي شتى مناحي الحياة، وكان التركيز -دوماً- يقوم على دور الإنسان في تقرير مصيره، وواجب إشراكه في إدارة شؤون وطنه (على الأقل في مستوى الخطاب السياسي ).
6.. والحق يُقال أن ما ران على الإنسان العربي من ظروف تاريخية، وما استتبع من هيمنة ثقافية وسيطرة اقتصادية وتفاعلات اجتماعية وطغيان المنظمات الدولية(السياسية، والمالية) قد لا ترتكز جميعها على ضعف ذاته، وهوانه على نفسه، وإنما ساهمت المعطيات الخارجية، والعراقيل الحضارية التي ظلت تمارس من قبل قوى سياسية دولية في زيادة تعطيل الدور وشل القدرات .
وكانت النتيجة أن صارت الأمة الفاعلة في حركة التاريخ، وفي مجال حقوق الإنسان، أمة مستغرقة في حالة من التوقف والجمود والتقهقر، وتوصف الدولة العربية (مع اختلاف الدرجة بين كل دولة عربية وأخرى) على أنها من أشد الدول انتهاكاً لحقوق الإنسان، وأصبحت التداعيات (السلبية) شبه شاملة في كافة مناحي التأثير الحضاري، وكان أن برزت عدة أشكال دستورية للدولة العربية المعاصرة، تأثرت بهاتيك العوامل وانعكاساتها فرأينا النموذج للدولة العربية المستلهم من تجربة الدول الاستعمارية، وتمت صياغة فكر سياسي عربي مشوه، استند إلى ثقافات وفلسفات ونماذج الدول المنتصرة، وتغافل عن حقيقة الانتماء، وإرادة التميز الإيجابي (نظرية ابن خلدون في العمران البشري ).
7.. وقد وصل التأثير إلى درجة من القوة بحيث طال جُل المؤسسات الفاعلة في الدولة العربية، ولم يستثن أدوات التشريع، وشكل التنفيذ، ومؤسسات القضاء، وبما انعكس (سلباً) على المركز القانوني، والسياسي للمواطن العربي (الإنسان)، وعلى منظمات المجتمع المدني .
وتتقدم الدول العربية (المتعددة) اليوم في مسيرة الحضارة الإنسانية، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، بنماذج سياسية لشكل الدولة، لا تعبر عن حقيقتها، ولم تكن من “صناعتها” وليس هو بتعبير عن تطلعاتها المستقبلية، وتتنازعها (في مجال حقوق الإنسان) تيارات الخصوصية (القطرية، وليست القومية) والعالمية ومعطيات السيادة، والتدويل، وتباينات الشرعية القطرية، والمشروعية القومية .