فكان القضاء هو وسيلة بلوغ تلك الغاية و بتعاقب الزمن نشأ اقتران حتمي بين القضاء و العدل حتى صارا متلازمين..ولكن أي قضاء يستطيع أن يحقق هذه الغاية ؟ من هنا يبدأ التقاطع ما بين النظرية والتطبيق نظرياً إنه القضاء الحر المستقل وعملياً لا يتحقق ذلك إلا بوجود قاض قوامه العلم والقيم ولن يكون كذلك إلا بتأهيله وتزويده بانضج الخبرات وأغزرُ روافد المعرفة منذ حداثته وقبل جلوسه للفصل في القضايا..وبالتالي فإن العناية بالتأهيل هي دليل حرص الدولة على توفير العدل لضمان أمنها واستقرارها ..كما أن تأهيل القاضي هو أقدس التزامات الدولة لأن المواطن مهمته متى لجأ إلى القضاء أن يحصل على حقه بأقصر الطرق وبأسرع وقت وأن لا يكون حقه محلاً للتجربة فالخطأ في مجال القضاء فادح في وقعه وفي آثاره والخطأ بحبس مواطن يوماً واحداً بدون وجه حق كفيل بتبوير باقي أيام حياته ومهما أتيح له بعد ذلك من تعدد درجات التقاضي والطعن في الأحكام فإن ذلك لا يبرئُ ما إكتوى به من ظلم في أول درجته ..ولكن تحقيق ما تقدم رهين بإختيار ذلك القاضي الذي يجب أن يكون اختباراً وليس محاباة غايته الفهم مؤهلاً بأقصى حدود المعرفة له من المنزلة ما ليس لغيره ، حاجاته مكفولة لا يستميله إغراء ، يساوى بين الخصوم ، يخلص نيته في الحق وفي تراثنا المشرق عديد الشواهد على سبق المناداة بحسن الاختيار فذلك علي بن أبي طالب يقول للأشتر عندما ولاه قضاء مصر (ثم أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا وليس محاباة وأثره ….وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً ….. إلخ ) ، وكذلك الحال في أمر التأهيل فأبوحنيفة يقول (لا يترك القاضي على قضائه إلا سنةً واحدة لأنه متى اشتغل بذلك نسي العلم فيقع الخلل في الحكم فيقول السلطان للقاضي ما عزلتك لفساد فيك ولكني أخشى عليك أن تنسى العلم فادرس ثم عد إلينا حتى نقلدك ثانياً “. ويقودنا الأمر إلى التساؤل حول مسألة العناية في اختيار القضاة هل هي وليدة فكر ديني موروث أم أن لها صدى دولياً يأتي مستلهماً لقدسية العدل وعلو مقام القضاء ورفعته !! . لقد أوصى الإعلان العالمي لاستقلال القضاء في مادته الحادية عشرة على وجوب أن يكون المرشحون للمنصب القضائي أفراداً من ذوى الاستقامة والكفاءة حسنى التدريب في مجال القانون .
ونص المبدأ العاشر من مبادئ المؤتمر السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين على أنه ( يتعين أن يكون من يقع عليهم الاختيار لشغل الوظائف القضائية أفراداً من ذوي النزاهة والكفاءة وحاصلين على تدريب أو مؤهلات في القانون ) . كذلك نص المبدأ (13) على أنه ( ينبغي أن يستند نظام ترقية القضاة – إلى العوامل الموضوعية ولا سيما الكفاءة والنزاهة والخبرة ) . كما دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها (40 / 146 ) بتاريخ 13 / 12 / 85 الحكومات إلى احترام مبادئ هذا المؤتمر ووضعها في الاعتبار في تشريعاتها . وقد إنتهى تقرير تلخيص مناقشات مؤتمر كاراكاس لإستقلال القضاء إلى ضرورة عقد حلقات دراسية دورية لرجال القضاء على المستوى الوطني والإقليمي لمناقشة مبادئ استقلال القضاء ودراسة كيفية التغلب على ما يواجهها من ضغوط وقد وضعت مجموعة من القواعد للإجراءات الواجب إتباعها وعرضت على المجلس الأقتصادي والاجتماعي ومنها القاعدة رقم (6 ) التي تنص على الدول أن تعقد أو تشجع إقامة حلقات دراسية على المستوى الوطني والمحلي بشأن دور السلطة القضائية في المجتمع . والقاعدة رقم (11) التي أوجبت على الأمم المتحدة أن تقيم وتشجع على المستوى القومي والدولي الحلقات الدراسية وغيرها من الكفاءات المتعلقة بدور السلطة القضائية وأهميتها . ونص البند (14) على إخضاع ترقية القضاة للتقرير الموضوعي لكفايتهم المهنية وخبراتهم واستقلالهم واحترامهم للقانون . ويقضي البند (40) بأن على القضاة أن يلموا بأحكام الاتفاقيات الدولية وغيرها من قوانين حقوق الإنسان وأن يعملوا على تطبيقها كلما أمكن ذلك . كما أن التقرير المشار إليه قد أجاز أن يعين القاضي تحت مسؤولية الاختبار حتى إذا تأكدت صلاحيته ثُبّت في وظيفته . وهكذا ولهذه الأسباب وصفت مهمة القضاء بأنها مهمة شاقة وعسيرة تتعاظم معها مسؤولية الجهة المديرة لمرفق القضاء والتي تُلقي عليها بالإضافة إلى مسؤولية الاختيار والتأهيل أعباء تطوير وتحديث إدارة العدالة لتصبح قادرة على تلبية كل المتطلبات ومواجهة كل التحولات ولكن قبل كل ذلك يجب التذكير بأن خوض تيارات التحديث والتطوير أمراً ليس هيناً إذ أن الإستفادة من تجارب الآخرين تجعلنا نعيد النظر في قضائنا وفق جملة من المعطيات حيث إن برامج التدريب والتطوير قد تكون أحياناً مصادره على المطلوب إذا لم تكن هناك مرتكزات قادرة بطبيعتها وتنشئتها على استيعاب كل ما هو جديد وهذا يدفعنا بدوره إلى إعادة تقييم هذا القضاء خلال فترة تزيد على ربع قرن من الزمان !! لنعرف عما إذا كان لدينا قاض قد تم اختياره وتأهيله بعناية أم أن ذلك لم يحدث بعد ؟! .
لقد صدر القانون رقم (51) لسنة 1976 مسيحي بشأن نظام القضاء ووضع جملة من الشروط فيمن يتولى القضاء كانت وإلى حد كبير متلائمة مع كافة الظروف التي يعيشها المجتمع في ذلك الوقت أما الآن وبعد مرور هذه الحقبة من الزمن فإن تطوراً كبيراً قد حدث في المجتمع على مختلف المستويات وبات من الضروري أن يكون هناك تكوين علمي وثقافي على ذات الدرجة من التطور يجب أن يفرغ فيه رجل القضاء حتى يمكن تفادي أي خلل من الممكن أن يقع . فإلى أي مدى أمكن لتلك الشروط النمطية المنصوص عليها في القانون المشار إليه أن تحقق الاختيار المقصود لرجل القضاء ؟! . و هل الاختيار عمل مادي ينصب على قيم وقوالب يجب أن تكون موجودة أصلاً ثم يفرغ فيها رجل القضاء كالاستقامة والنزاهة أم تكون بالبحث عن رجل تتوافر فيه هذه الشروط وهل ذلك أمر من الممكن تحقيقه ؟! . هل يترك الأمر للتجربة ومن ثم اعتمادها شرطاً للتعيين ؟! . أم أن هذه المضامين هي قيم مطلقة لا يمكن بلوغها والقضاة هم بشر يتزاورون ويتسامرون ويتواصلون مع بقية أفراد المجتمع !! هل لدينا قضاة يتمسكون بسلوكيات المهنة تلقائياً ويحافظون على ما تفرضه عليهم من التزامات ذاتياً ، هل هم مجّردُون إلى حد كبير !! هل لدى المتقاضين إحساس بأن القاضي هو ضمير العدالة ومن ثم يرتضون بما يصدره من أحكام ؟!. إلى أي مدى يمكن للفترة السابقة أن تجيب على هذه التساؤلات ؟! هل أدوات تقييم رجال القضاء تعتمد أساليب علمية مجردة تعاون على فرز أية سلبيات أم أن العلمية القضائية هي كل لا يمكن تجزئته وأي شذوذ يمكن أن يعُمها ومن ثم فإن تطبيق أساليب تقييم صارمة سيؤدى إلى التضحية بعدد كبير من رجال القضاء !! . هل يمكننا أن نفرغ جهودنا الآن في تأهيل وتدريب رجل القضاء دون الإلتفات إلى مسألة الاختيار ؟! . وأياً كان الأمر فإنه يجب أن لا نغفل مسألة غاية في الأهمية هي مسألة ظهور بعض العوارض في تصرفات رجل القضاء سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى الفني ؟! و هذه على ما نعتقد أصبحت مسألة طبيعية لابد من وقوعها لفرز الأصلح ولا يمكن أخذها على كونها أمر ينتقص من قدسية العدالة إلا أن يجب بحثها والوقوف على أسبابها فعلى المستوى الشخصي هناك ضعف في التكوين منذ البداية ينعكس أثره عن الأداء وهناك أخطاء مسلكية تثبت انعدام الصلاحية للقضاء وعلى المستوى الفني لا يوجد هناك قضاة متخصصون يستطيعون بناء السوابق والمرجعيات القضائية . نحن الآن نطالب في إطار بعض ما حصلنا عليه من مساحات للمطالبة بدعم رجل القضاء مادياً ومعنوياً ، رجل القضاء الذي يجلس على دكّةً الحكم و يصارع ذاته صراعاً يجد أساسه منذ الأزل في جدلية الخير والشر ؟! غيره من الأقران يشغل وظائف أخرى تتحلل إلى قدر كبير من القيود التي كبلته بها اخلاقيات مهنته وصاروا في وضع متميز لن يبلغه هو ولو تمكن من القضاء على كل ما ينغّصُ صفو العدالة من أقضية متراكمة ومهما طال به الأمدُ فلن يكون غير ماهو كائن ؟! إن الاهتمام برجل القضاء صار عنواناً كبيراً وأساسياً وملحاً فالنزاهة والحيدة والاستقلال لا تعني أن يعيش القاضي على حد الكفاف ولكنها تعني حسن اختيار وتأهيل مستمر وتوفير حياة كريمة في شتى مناحيها تغنيه عن الحاجة وتكفيه ذل السؤال وتحصنه ضد من يحاول هتك سترة العدالة التي يرتديها …وهكذا تكون مسؤولية وزارة العدل بعد أن تم فصلها عن الأمن العام قد تعاظمت وخاصة في هذه المرحلة بالذات التي أصبح فيها القضاء هو مقياس الشفافية ومؤشر حماية حقوق الإنسان وصون الحقوق والحريات إلا أن ما يبعث على الاطمئنان هو أن القائمين على تسيير مرافق العدالة هم رجال قضاء يعملون على رسم الطريق نحو غايات كانت عبارة عن إحلام طالما أرقت جفن العدالة إلا أن اختيار القاضي المناسب وتأهيله تأهيلاً علمياً وثقافياً وتوفير متطلباته أمر شاق ويحتاج إلى زمن ليس بالقصير ولذلك فإن الأمانة وضعت خطة عملية عملت من خلالها على رصد سلبيات المرحلة السابقة ووضع الحلول الناجحة لها على مستوى التشريع والتطبيق وذلك على النحو التالي : أ – على مستوى التشريع :
وضعت الأمانة يدها على مواطن القصور في التشريعات المنظمة لعمل القضاة إبتداء بقانون نظام القضاء الصادر بالقانون رقم (51) لسنة 1976 ف حيث أجرت عليه التعديلات المناسبة..
وقد أنصب أهمها على شروط التعيين في وظيفة القضاء وذلك بإضافة شرط اجتياز دورة التأهيل بنجاح لمن يتم تعيينهم في القضاء وتقرير بعض المزايا المادية والعينية لهم سواء أثناء الحياة أو بعد انتهاء العلاقة الوظيفية وضمان مواجهة ما قد يتعرضون إليه أثناء حياتهم من كوارث ونكبات . ب – على مستوى التطبيق : 1 – أعادت الأمانة رسم خريطة العمل القضائي بكاملها وذلك بإجراء مسح كامل للبنية التحتية فبدأت بتوفير مقار نموذجية وحديثة لعدد كبير من المحاكم والنيابات وفق خرائط متطورة بالاستعانة بمكاتب استشارية وبيوت خبرة هندسية قادرة وأدخلت تحسينات على القائم منها بما يجعلها تليق وكرامة الجالسين وسط قاعاتها لأداء اقدس الرسالات (العدالة ) كما أعلنت الأمانة عن البدء في تتفيذ دعم القضاء والمحافظة على استقلاله فوضعت برامج عديدة من أجل إيجاد المعالجات المناسبة لما يعانيه رجال القضاء من أزمات تتعلق بالسكن والمركوب وفي هذا السياق أردفت بمشروع قانون نظام القضاء جدولاً يتضمن الرفع من مرتباتهم على نحو يضمن لهم حياة كريمة .
2 – تفعيل دور التفتيش القضائي وفق رؤية جديدة تعتمد على ما يلي :- – متابعة الشكاوى التي ترد إليها ضد رجال القضاء واتخاذ الإجراءات القانونية حيالها دون تردد في إحالة من تثبت في حقهم أية مخالفات إلى مجلس القضاء الأعلى بوصفه مجلساً للتأديب لينالوا جزاءهم الرادع وفق القانون . – تزويدها بمنظومة حديثة لجمع شتات الملفات الشخصية والوظيفية لرجال القضاء . – تزويدها بالعدد الكاف من المستشارين للقيام بمهام التفتيش الدوري والمفاجئ على مدار السنة بدلاً من الأسلوب الذي كان متبعاً في السابق وهو القيام بالتفتيش الفني عند الترقية فقط . – وضع معايير جديدة للحركة القضائية التي تجربها أساسها القدرة والصلاحية والالتزام والقضاء على الفكر السائد لفترة طويلة بشأن اعتبار النقل إلى القضاء عقوبة . 3 – اعتماد برنامج معدلات الأداء لفرز المتميزين من رجال القضاء وهذا يحقق غايتين أولهما اعتبار ذلك معياراً لنظام الحوافز الذي بدأت الأمانة في منحه في شكل مقابل مالي لمن يقوم من رجال القضاء بعمل متميز وثانيها القضاء على أزمة العمل القضائي المزمن وهي ( المتراكم ) . 4 – وضع برامج تأهيل لرجال القضاء من خلال الاستفادة من التطورات العلمية في كافة مجالات العدالة وذلك من أجل إعداد قاض يملك القدرة على فهم مصطلحات العصر الناشئة عن تطور الحياة الاقتصادية وما أنتجه من آليات وأساليب وكذلك على التعامل مع منظومات الاتصالات الحديثة حيث تم التنسيق في هذا المجال مع عدد من المؤسسات الدولية ذات العلاقة مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الإدارة الرشيدة والدخول في برامج عملية يتم من خلالها تدريب عدد من القضاة وإطلاعهم على تقنيات العصر في مجال العدالة وإيفادهم في مهام رسمية للمشاركة في المؤتمرات الدولية والندوات وورش العمل ذات العلاقة بتطوير أساليب العمل القضائي . – على المستوى التوعوى : لم تغفل الأمانة ما لهذا الجانب من دور متميز لكونه يشكل أحد أهم وأنجع آليات المتابعة ومن تم فهي تحرص وباستمرار على عقد لقاءات دورية مع رجال القضاء علي مختلف درجاتهم لمتابعة التطورات التشريعية والقضائية التي يجب أن تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع وكذلك ما تقتضيه الضرورات العالمية بحيث يتم إدماج القضاة في دائرة هذا التفاعل اليومي والمستمر ليتابعون عن كثب دون تلقين ما يدور حولهم وما هو أصلح لمجتمعهم .