د. محمد هاشم ماقورا

من الحقائق الثابتة التي لا تحتاج إلى مزيد التأكيد،أن المحاكم الجنائية الدولية كافة تربطها بالأمم المتحدة علاقة من نوع ما ، غير ان السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو:ما هي طبيعة تلك العلاقة ؟ .

الواقع أن العلاقة بين المحاكم الجنائية الدولية والأمم المتحدة ،أما أن تكون علاقة تبعية،أو أن تكون علاقة تعاون فقط .

وتفصيل ذلك،أن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة،لكونها لم تنشأ بقرار اتخذه مجلس الأمن متصرفا بموجب الفصل السابع من الميثاق ،وإنما أنشئت بموجب اتفاقية دولية خاصة بها،فان العلاقة بينها و بين الأمم المتحدة علاقة تعاون فحسب،وليست علاقة تبعية كما هو الحال بالنسبة لمحكمة العدل الدولية التي تعد واحدا من الفروع الرئيسية للأمم المتحدة وقد ترتب على أن نفقات المحكمة تغطي من الاشتراكات المقررة للدول الإطراف،وكذلك من الأموال المقدمة من الأمم المتحدة في حالة تقديم الشكوى للمدعي العام للمحكمة من مجلس الأمن .

وأم محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا،فإن العلاقة بينهما والأمم المتحدة هي علاقة تبعية ،ذلك لأنهما أنشئتا بموجب قرارات اتخذها مجلس الأمن ،متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بهدف الحفاظ على السلم والأمن الدوليين في تلك المنطقتين من العالم .

ولهذا فان نفقات هاتين المحكمتين تحمل على الميزانية العامة للأمم المتحدة ،وفقا للمادة 17 من ميثاق الأمم المتحدة .

وإما المحكمة الخاصة لسيراليون ،فان العلاقة بينها و بين الأمم المتحدة الدائمة ويؤيد هذا المعني ما ورد في الفقرة 1 من قرار مجلس 1315 (2000) سابق الإشارة إليه،فقد نصت على انه (يطلب إلى الأمين العام التفاوض بشان اتفاق يتم مع حكومة سيراليون لإنشاء محكمة خاصة مستقلة )

ومما يؤكد ذلك أيضا،ان نفقات المحكمة الخاصة لسيراليون لا تحمل على الميزانية العام للأمم المتحدة.. كما هو الحال بالنسبة لمحكمتي يوغسلافيا ورواندا وإنما تمول تلك النفقات من تبرعات المجتمع الدولي .

ب- المقارنة بين المحاكم الجنائية الدولية من زاوية العلاقة بينها والمحاكم الوطنية .

اشرنا في موضع سابق من هذا البحث ،الى أن اختصاص النظر في الدعاوى الناشئة عن الجرائم الواردة ذكرها في المادة(5) من نظام روما الاساسي ، اختصاص مشترك بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية في الدول الاطراف .

والواقع ان سمة الاختصاص المشترك هذه تعد قاسما مشتركا بين المحاكم الجنائية الدولية كافة في علاقتها بالمحاكم الوطنية ،فالمادة 9 / 1 من النظام الأساسي للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة،والتى يقابلها نص المادة 8 /1 من النظام الأساسي للمحكمة الدولية لرواندا، وكذلك من نص المادة 8 /1 من النظام الأساسي للمحكمة الخاصة لسيراليون،نصت على ان (للمحكمة الدولية والمحاكم الوطنية اختصاص مشترك في مقاضاة الأشخاص عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني ….الخ )؟

وهنا يثور سؤال :طالما ان الاختصاص مشترك ،فلأى من المحاكم تكون الأولوية او الأسبقية فهل يكون ذلك للمحاكم الوطنية ام للمحكمة الدولية؟

لعل اهم ما يلفت النظر في هذا السياق ،هو وجود اختلاف بين المعيار الذي تبناه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،في حين ان النظم الأساسية للمحاكم الجنائية المؤقتة تنص،بشكل نمطي ،على ان المحكمة الدولية اسبقية على المحاكم الوطنية ، ويجوز للمحكمة الدولية في أي مرحلة من مراحل الدعوى ان تطلب الى المحكمة الوطنية رسميا التنازل عن اختصاصها للمحكمة الدولية .. والسؤال السابق يقودنا الى طرح آخر ،ما هو سبب إعطاء الأولوية للمحكمة الدولية (المؤقتة)والمحاكم الوطنية ؟ لعل السبب الرئيسي في ذلك يمكن في أن المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة أنشئت عقب انتهاء حروب أهلية طاحنة ،شهدتها يوغسلافيا السابقة ،وكذلك رواندا ،وكذلك أيضا سيراليون،وقد سببت تلك الحروب دمارا شاملا ـترتب عليه ان أصبحت تلك الدول تفتقر الى البنية الأساسية اللازمة لوجود نظم قضائية فعالة ،وموثوق بها،وقادرة على الوفاء بالتزاماتها الخاصة بالتحقيق والادعاء .

(ج)المقارنة بين المحاكم الجنائية الدولية من حيث الاختصاص :

المقارنة من هذه الزاوية تشمل الاختصاص من حيث (1) الموضع (2) الزمان(3) المكان (4) الأشخاص .وفيما يلي تفصيل ذلك .

(1)الاختصاص بالنظر إلى الأشخاص :

أن إلقاء نظرة سريعة على ما ورد في النظم الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية من إحكام ذات صلة بالمسؤولية الجنائية الدولية ستكشف عن ان تلك النظم الأساسية تتفق جميعها في ان المحاكم الجنائية الدولية لها اختصاص على الأشخاص الطبيعيين فحسب في الوقت الراهن وبالتالي فان الدول والأشخاص الاعتبارية الأخرى ليس لهذه المحاكم اختصاص عليها .

(2) الاختصاص من حيث الزمان :

لعل أهم سؤال قد يتبادر الى الذهن في هذا الصدد هو: هل ثمة إطار زمني معين أن تكون الجريمة قد ارتكبت فيه حتى يتسنى القول بانعقاد الاختصاص للمحكمة الدولي ؟

وللإجابة على هذا السؤال ،نرى من المفيد الإشارة الى انه بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية يستفاد من مضمون نصوص المواد(11) و(24) من نظامها الأساسي أن اختصاص هذه المحكمة مستقبلي فقط أي بمعنى أنها تختص فحسب بالجرائم التي ارتكبت أو ما سيرتكب بعدد دخول نظامها الأساسي حيز النفاذ،والذي ذكرنا من قبل انه تحقق بالفعل في 1/ 7 / 2002 . وبالتالي فان المحكمة الجنائية الدولية لا علاقة لها بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت قبل دخول نظام روما الأساسي حيز النفاذ .ولكن يلاحظ انه يوجد سقف زمني معين لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية

من حيث الزمان .وسبب ذلك مفهوم بالبداهة لا هذه المحكمة لم تنشا لكي تكون محكمة مؤقتة كمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا بل انشأت لكي تكون محكمة دائمة يمتد وجودها عبر الزمن .

وإما بالنسبة للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة فقد نصت المادة الأولى من نظامها الأساسي على ان للمحكمة الدولية لرواندا سلطة محاكمة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي المرتكبة في إقليم رواندا والموظفين الروانديين المسؤولين عن ارتكاب هذه الانتهاكات في أراضي الدول المجاورة بين كانون الثاني /يناير 1994 و31 كانون الأول /ديسمبر 1994 وفقا لإحكام هذا النظام الأساسي ).

وإما بشان المحكمة الخاصة لسيراليون فقد نصت المادة (1/ 1) من نظامها الأساسي على أن (للمحكمة الدولية …………سلطة مقاضاة الأشخاص الذين يتحملون العبء الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وقانون سيراليون منذ 30تشرين الثاني /نوفمبر 1996 ). وخاصة ما تقدم أن النظم الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة (يوغسلافيا ،ورواندا،وسيراليون)وضعت لكي تطبق بأثر رجعي أي من اجل ان تطبق إحكامها على جرائم ارتكبت قبل إنشاء المحاكم المؤقتة،وذلك لسبب واضح وجلي هو أن تلك المحاكم أنشئت بعد هروب أهلية ونزاعات مسلحة داخلية طاحنة وبالتالي كان لابد من إنشاء تلك المحاكم للمحافظة على السلم والأمن الدوليين وإما نظام روما الأساسي فعلى العكس من ذلك فقد وضع لكي يسرى على المستقبل أي لكي يطبق على الجرائم التي وقعت أو التي ستقع بعد أن دخــــل حيــز النفاذ في 2002 / 7/ 1 .

ج)الاختصاص من حيث المكان: لعل الأمر الجوهري في هذا الصدد هو الإجابة عن السؤال التالي :هل يشترط ان تكون الجريمة قد وقعت في مكان معين لكي ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية؟

هنا ينبغي التفرقة بين المحكمة الجنائية الدولية (الدائمة) والمحاكم الجنائية المؤقتة وهي كما معلوم محاكم يوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون :

ا) اختصاص المحاكم الجنائية المؤقتة من حيث المكان :

محاكم يوغسلافيا السابقة ورواندا ،وسيراليون،أنشئت كل واحدة منها لمحاكمة أشخاص معينين ،ارتكبوا جرائم بعينها ،وفي زمن معلوم ،وبشرط أن يكون ذلك في مكان محدد .

وعلى ذلك فاختصاص المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة من حيث المكان يشمل إقليم جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية السابقة ،بما ذلك مسطحها الارضي ومجالها الجوى ومياهها الإقليمية .ومعلوم ان يوغسلافيا السابقة كانت تضم ما يعرف الآن بجمهوريات :البوسنة والهرسك ،وكرواتيا ،وصربيا والجبل الأسود ومقدونيا الخ ….

وإما اختصاص المحكمة الدولية لرواندا ، من حيث المكان فيشمل إقليم رواندا بما في ذلك مسطحها الأرضي ومجالها الجوي،وكذلك أراضي الدول المجاورة فيما يتعلق بالانتهاكات الجسمية للقانون الدولي الإنساني المرتكبة من جانب مواطنين روانديين .

وإما اختصاص المحكمة الخاصة -لسيراليون من حيث المكان فيشمل الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وقانون سيراليون التي ارتكبت فقط داخل أراضي سيراليون .

وإما اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فيشمل من حيث المكان جرائم الإبادة الجماعية ،وجرائم الحرب /والجرائم ضد الإنسانية في أية قارة من قارات العالم بشرط أن تكون الجريمة محل الاتهام قد ارتكبت في إقليم دولة طرف في نظام روما الأساسي ، أو بمعرفة احد رعاياها ولو كان مكان ارتكاب الجريمة إقليم دولة غير طرف وكذلك أيضا تختص المحكمة إذا ارتكبت الجريمة في إقليم دولة غير طرف اتخذت ترتيبا او عقد اتفاقا خاصا مع المحكمة وقبلت بموجبه (الشكوى) من مجلس الأمن متصرفا بموجب الفصل السابع من الميثاق ،فانه في هذه الحالة ينعقد الاختصاص للمحكمة بغض النظر إطلاقا عن المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة لأن مجلس الأمن في هذا الغرض لا يتصرف بموجب النظام الأساسي ،وإنما بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (م39 )لغرض الحفاظ على السلم والأمن الدوليين .

د) الاختصاص من حيث الموضوع :

ذكرنا من قبل أن دائرة الاختصاص الموضوع للمحكمة الجنائية الدولية تضم في الوقت الراهن،وفقا لنص المادة 5 من نظام روما الأساسي ،فضلا عن جريمة العدوان التى يجب تعريفها،جريمة الإبادة الجماعية ،وجرائم الحرب ،الجرائم ضد الإنسانية ،وتفاديا للتكرار نحيل على ما ورد بهذا الشأن من تفاصيل في موضوع سابق في هذا البحث .

وعليه ننتقل الآن لبيان حدود فاعلية النظم الأساسية للمحاكم الجنائية المؤقتة من حيث الموضوع وتبدأ بالمحكمة الدولية ليوغسلافيا التي نص نظامها الأساسي على أن اختصاصها المؤقت يشمل الجرائم التالية . 1)الانتهاكات الجسيمة لاتفاقات جنيف الأربع بشان قانون الحرب المؤرخة .

12 أغسطس .1949 م .

2) مخالفات قوتين أو أعراف الحرب .

3) الإبادة الجماعية .

4) الجرائم ضد الإنسانية 2 .

وإما اختصاص المحكمة الدولية لرواندا من حيث الموضوع ،فلربما لاحظ البعض انه من قبيل التكرار تناول هذا الموضوع ،على اعتبار أن النظام الأساسي لمحكمة رواندا مقتبس حرفيا في جانب كبير منه من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة بما يتلاءم مع ظروف رواندا،ومع ذلك نرى ملائمة التعرض باختصار شديد لذلك ،ونكتفي بالإشارة إلى أن الأختصاص الموضوعي للمحكمة لرواندا يشمل :

جريمة إبادة الأجناس .

الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية .

انتهاك المادة 2 المشتركين بين اتفاقات جنيف الأربع المؤرخة 12 / 8 / 1949 م .

وانتهاكات البروتوكول الإضافي

الثاني المبرم في 8 حزيران / يونيو 1977 م .

وفي ضوء ما تقدم ،يتضح بجلاء أن دائرة اختصاص رواندا من حيث الموضوع أضيق من نظيرتها الخاصة باختصاص محكمة يوغسلافيا السابقة،ذلك ان الاختصاص الموضوعي لمحكمة رواندا لا يشمل انتهاكات قوانين وأعراف الحرب،واتفاقية جنيف لعام 1949 الخاصة بالمنازعات المسجلة ذات الطابع الدولي ،نظرا لان طبيعة النزاع في رواندا كان أهلية (نزاع مسلح غير ذي طابع دولي بينما دخلت انتهاكات المادة الثالثة من اتفاقية جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي رقم 2 ضمن دائرة الاختصاص الموضوعي للمحكمة ..-.

وأما الاختصاص الموضوعي للمحكمة الخاصة لسيراليون،فيشمل بوجه خاص الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ،وجرائم الحرب،وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وخاصة انتهاكات المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف وانتهاكات البروتوكول الإضافي الثاني وكذلك الجرائم الخاضعة لقانون سيراليون ذي الصلة، والمرتكبة في أراضي سيراليون ومن بينها الجرائم المتصلة بمعاملة الفتيات واختطافهن ،وكذلك الجرائم المتصلة بالإتلاف المعد للممتلكات بموجب قانون الإضرار العام 1861 .