الأستاذ : المبروك عبدالله الفاخري المستشار بالمحكمة العلياتُعد نظرية الضرورة من النُظم القانونية العامة التي لها الأثر الواضح في إضفاء المشروعية على بعض الأعمال المخالفة للقانون، وهى فكرة قديمة لازمت الفكر القانوني منذ نشأته، وأخذت بها الشرائح القديمة والحديثة(1) .

وجوهرها واحد في مختلف فروع القانون، وإن اختلفت تطبيقاتها باختلاف المصالح التي يحميها وينظمها كل فرع من هذه الفروع، وهي في جميع الأحوال تقوم على ركنين أولهما :

موضوعي يتمثل في قيام خطر ملجئ يهدد إحدى المصالح المحمية، وثانيهما : شخصي يتمثل في رد الفعل تجاه الخطر لحماية المصلحة المهددة، ودرء الضرر عنها وهو ما يسمى بالعمل الضروري. ولقد حظيت فكرة الضرورة باهتمام أغلب فروع القانون، حيث تضمنت نصوصاً عامة تحدد شروطها وتٌبيّن أثارها، وبالتالي فإن شرعيتها مستمدة من تلك النصوص التي نظمتها وأوضحت أحكامها .

أما في الإجراءات الجنائية فالأمر مختلف، حيث لم تنص التشريعات الإجرائية على إعمال الضرورة كمبدأ عام، بل أوردت عدة تطبيقات لها في بعض النصوص المتفرقة. ولما كان قانون الإجراءات الجنائية يهدف إلى حماية المصالح الاجتماعية في الدولة من خلال التوفيق، وإقامة التوازن بين مصلحتين تبدوان متعارضتين، هما مصلحة المجتمع في كشف الحقيقة،والقبض على المجرمين، وإدارة العدالة الجنائية على نحو فعال يحقق السرعة والردع من ناحية، ومصلحة الفرد -عندما يكون متهما- في أن تُصان كرامته وأن تُضمن له حقوقه في الدفاع عن النفس وإثبات براءته وألا تطغى الرغبة في إدارة العدالة الجنائية ،على حقوق الفرد وحرياته الأساسية ، من ناحية أخرى . ومن ثم فإن مهمة قانون الإجراءات الجنائية هي الموازنة بين العدالة والحرية، ويقتضي ذلك رسم نطاق قانوني لحرية الفرد، يبين الحد الأدنى من حريته الذي يجب الحفاظ عليه وعدم التضحية به، إيماناً بأن هذا الحد الأدنى لا يتعارض مع مصلحة المجتمع، بل يسهم في تحقيقها، وهذا ما يقوم عليه مبدأ الشرعية الإجرائية(2).

وتقوم فكرة الضرورة في الإجراءات الجنائية عندما يكون هناك خطر يهدد إحدى المصالح التي ينظمها ويحميها القانون الإجرائي الجنائي ، ويقتضى الأمر مخالفة الشكل الإجرائي، لحماية المصلحة المهددة بالخطر، سواء كانت مصلحة عامة أم خاصة . ومن المُسلّم به أن فكرة الضرورة ليست غريبة عن الإجراءات الجنائية، فقد وردت بعض تطبيقاتها صراحة أحياناً، وضمنا أحياناً أخرى في التشريعات الإجرائية الجنائية . إلا أن الخلاف احتدم بين الفقهاء حول إمكانية إعمالها كنظرية عامة، فيرى بعضهم(3) أن العمل بالضرورة في مجال الإجراءات الجنائية يجب أن يقتصر على الحالات التي وردت حصراً، وأنه لا يجوز العمل بها كمبدأ عام، إذ يترتب على ذلك الافتئات على حريات الناس، وانتهاك الضمانات المقررة لهم قانوناً باسم الضرورة، وأيضا زعزعة الاستقرار القانوني في المجتمع. وذهب آخرون(4)

-وشايعتهم في ذلك بعض أحكام القضاء- إلى أن الضرورة مبدأ عام في مختلف فروع القانون، ومن بينها قانون الإجراءات الجنائية وبالتالي لا يحتاج تطبيقها إلى نص، ويجوز العمل بها كنظرية عامة متى توافرت شروطها . وأمام هذا التباين في الآراء، فإننا نتساءل : -هل يجوز العمل بالضرورة كنظرية عامة في الإجراءات الجنائية ؟

– وهل يتعارض ذلك مع مبدأ الشرعية الإجرائية ؟

أم أنها تطبق على سبيل الاستثناء، ويقتصر العمل بها على الحالات التي وردت حصراً في التشريعات الإجرائية الجنائية ؟

المبحث الأول .. مفهوم الضرورة وأنواعها في الإجراءات الجنائية نستعرض في هذا المبحث وعلى التوالي مفهوم الضرورة في الإجراءات الجنائية في مطلب أول، ثم أنواعها في مطلب ثان.

المطلب الأول مفهوم الضرورة في الإجراءات الجنائية لما كان جوهر الضرورة واحداً في مختلف فروع القانون، لذا رأينا ونحن بصدد دراسة الضرورة في الإجراءات الجنائية أن نتصدى لبيان مفهومها بشكل عام، وذلك بالقدر الذي يمكننا من تحديد مفهومها الإجرائي.

أولاً : المفهوم العام تتعدد مفاهيم الضرورة حسب زاوية النظر إليها، فالضرورة لها مفهوم لغوي ومفهوم اجتماعي متداول بين الناس، ومفهوم فلسفي،ومفهوم في الاصطلاح الشرعي ، وأخيراً مفهوم قانوني .

فالضرورة عند علماء اللغة مشتقة من الضرر،وهي ضد النفع، وهي اسم لمصدر الاضطرار، كأن تقول :”حملتني الضرورة على كذا وكذا..”، وقوله -عز وجل:-

( فمن اضطر غير باغ ولا عادٍ)(5) أي فيمن أُلجىء إلى أكل الميتة وما حُرّم وضيق عليه، وأصله من الضرر وهو الضيق(6) ، ومن الناحية الاجتماعية يستخدم عامة الناس هذا المصطلح للتأكيد على أوضاع أو أقوال ذات أهمية، أو توضيح مشكلة معينة أدت إلى تصرف معين أو لإعفاء تصرف ما من المساءلة(7).

ومفهوم الضرورة في الفلسفة :”هو ما لا يمكن أن يكون خلافاً لما كان، ولا يمكن ألا يكون” ومعنى هذا أن العمل الضروري لا يمكن تصوره على خلاف ما كان(8).

والضرورة في الإصطلاح الشرعي : هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعا، أما الحاجة :فإنها وإن كانت حالة جهد ومشقة فهي دون الضرورة ، ولا يتأتى معها الهلاك(9). والضرورة في الإصطلاح القانوني : هي حلول خطر جسيم لا سبيل لدفعه إلا بارتكاب محظور(10).

ثانيا : مفهوم الضرورة الإجرائية تصدت محكمة النقض المصرية لتعريف الضرورة في الإجراءات الجنائية بمناسبة قيام المحقق بندب كاتب غير مختص لتدوين التحقيق للضرورة، حيث قالت : إن المُراد بالضرورة في هذا الموطن هو العذر الذي يبيح ترك الواجب دفعاً للحرج عن المحقق وسداً للحاجة التي تقتضيها مصلحة التحقيق(11).

ومن هذا المنطلق عرّفها أحد الفقهاء(12) بأنها :” العذر الذي يبيح ترك الواجب تغليباً لمصلحة أولى بالرعاية أو دفعاً لمفسدة أولى بالاعتبار”.

وهكذا يتضح بأنه إذا وجد الشخص الإجرائي نفسه أمام عذر طارئ يهدد إحدى المصالح التي ينظمها قانون الإجراءات الجنائية فله أن يتخذ الإجراء الضروري حماية لتلك المصلحة المهددة بالخطر متى كانت أولى بالرعاية ومتى توافرت شروط الضرورة . وحتى يستقيم تعريف الضرورة في الإجراءات الجنائية مع المفهوم العام للضرورة في مختلف فروع القانون الأخرى، فإننا نقترح التعريف الآتي :-

هي الحالة الملجئة التي تبيح مخالفة الشكل الإجرائي الجنائي لحماية المصلحة الأجدر بالرعاية. المطلب الثاني أنواع الضرورة الإجرائية إن المتفحص لتطبيقات الضرورة في التشريعات الإجرائية الجنائية سيجد بعض الحالات قد نُص عليها صراحة، والبعض الآخر يُستنتج ضمناً من خلال تلك النصوص، كذلك الأمر بالنسبة لأحكام القضاء، فهناك من الأحكام ما يُشير صراحة إلى إعمال نظرية الضرورة، والبعض الآخر لا يُشير إلى ذلك وإنما يُستشف الأمر من خلال أسباب الحكم. ولعلنا نستطيع القول بأن كافة الإجراءات الماسة بحرية الإنسان والتي وردت في التشريعات الإجرائية، جميعها وليدة الضرورة، لأن الأصل في الإنسان الحرية وفي المتهم البراءة، واقتضت الضرورة أن تكون هناك قيود تفرض على حريات الأفراد من خلال هذه النصوص، حماية لمصلحة الهيئة الاجتماعية وحقها في الأمن والأمان والاستقرار ولأغراض الدراسة سوف نقسّم الضرورة الإجرائية إلى نوعين :

النوع الأول : الضرورة التشريعية وهي التي يُنص عليها في قانون الإجراءات الجنائية إما صراحة أو ضمناً، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين :-

1- ضرورة تشريعية يقررها المشرّع ويقدر توافر شروطها، ولا مجال لتدخل الشخص الإجرائي فيها، والأمثلة على ذلك إجراءات القبض والتفتيش وضبط الخطابات والرسائل ومراقبة المحادثات الهاتفية والاستجواب والحبس الاحتياطي المنصوص عليها في المواد 24 و34و35و36و37و 38و75و78و79و80 و111و112و115 من قانون الإجراءات الجنائية ، فهذه الإجراءات ماسة بحرية وحقوق المتهم ، وهي أساسها الضرورة لأنه من المتفق عليه أن الأصل في المتهم البراءة ، وعليه لا يجوز المساس بحقوقه أو تقييد حريته إلا بقدر الضرورة التي تقتضيها حماية مصلحة المجتمع في أمنه وأمانه واستقراره، ونظرا لخطورة هذه الإجراءات الماسة بحرية الإنسان فلم يترك المشرع للشخص الإجرائي – الشخص القائم بتنفيذ قانون الإجراءات الجنائية – أي مجال في تقرير هذه الإجراءات أو تقدير توافر شروطها، بل تولى المشرع هذه المهمة وحدد شروط اتخاذ كل إجراء، وهذه الشروط لا تخرج عن كونها شروط الضرورة، وعليه فإذا تمت مباشرة أي إجراء بالتجاوز لها فإنه يُعد إجراءً باطلاً لا يُعول على النتائج التي تترتب عليه -إذا ما تمسك صاحب الشأن بذلك- لأنه خرج عن أحكام الضرورة وتجاوزها، أي قدّرها بغير قدرها .

2- ضرورة تشريعية يقررها المشرع ويترك تقدير توافر شروطها للشخص الإجرائي، ففي هذا النوع نجد أن المشرع ينص على العمل بنظرية الضرورة في بعض الإجراءات الجنائية، إلا أنه لا يحدد شروط مباشرتها بل يترك للقائم بتطبيق القانون هذه المهمة مسترشداً في ذلك بالشروط العامة للضرورة الإجرائية(13)، والأمثلة على ذلك في قانون الإجراءات الجنائية ما ورد في المادة (2) مكرر – المضافة بالقانون رقم (22) لسنة 1963- التي تعطي النائب العام إمكانية ندب أعضاء الشرطة لتحقيق قضايا برمتها وذلك في المناطق النائية .. كما تنص المادة (19) على أنه لا يجوز لمأموري الضبط القضائي تحليف الشهود أو الخبراء اليمين إلا إذا خيف ألا يُستطاع فيما بعد سماع الشهادة بيمين، بمعنى أنه لا يجوز تحليفهم اليمين إلا في حالة الضرورة ، وكذلك تنص المادة (55) في فقرتها الثانية على أنه لمأمور الضبط القضائي المنتدب أن يجري أي عمل آخر من أعمال التحقيق ،أو أن يستجوب المتهم في الأحوال التي يخشى فيها فوات الوقت متى كان العمل متصلاً بالعمل المندوب له ولازماً في كشف الحقيقة، ففي هذه الأحوال رأى المشرع أن سلطة الدولة في العقاب أولى بالرعاية من مصلحة المتهم، ومن ثم عمل بأحكام الضرورة وأجاز الخروج بمقتضاها عن القواعد العامة. وأيضا ما تنص عليه المادة (34) على أنه لا يجوز لرجال السلطة الدخول في محل مسكون ،إلا في الأحوال المبينة في القانون، أو في حالة طلب المساعدة من الداخل، أو في حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك، وهذه العبارة الأخيرة تعنى أن دخول المساكن يظل قائما في أية حالة ، تقتضيها الضرورة.

وما تنص عليه المادة (337) من جواز ندب قاض للحلول مكان مستشار، وما ورد في المادة (241) التي تجيز للمحكمة جعل جلسة المحاكمة سرية للضرورة . وأيضا ما ورد في المادة (243)التي تجيز للمحكمة إبعاد المتهم عن الجلسة للضرورة.

النوع الثاني : –

الضرورة العملية وفى النوع يعمل بالضرورة الإجرائية كنظرية عامة ويقوم الشخص الإجرائي بتقريرها توافر شروطها ، لأنه لم ينص عليها في قانون الإجراءات الجنائية ،لا صراحة ولا ضمناً ،لقد أطلقنا عليها هذه التسمية حتى نميز بينها وبين الضرورة التشريعية ،وهى بدورها تنقسم إلى قسمين :-

1- أعمال إجرائية يباشرها الشخص الإجرائي استنادا إلى حالة الضرورة ، إذ قد تواجهه ظروف ملجئة يضطر معها إلى مخالفة التنظيم الإجرائي لحماية مصلحة أجدر بالرعاية أو لــدرء مفسدة أولى بالاعتبار .

والمثال على ذلك تجاوز مأمور الضبط القضائي لحدود اختصاصه المكاني للضرورة (14) واستعانة المحقق بكاتب غير مختص (15) وتصدى محكمة النقض لطعن متهم على الرغم من عدم استيفائه للشكل المقرر قانونا (16) واتصال الطعن بخصم لم يطعن أصلاً ، بل ليس له الحق في الطعن (17) .

2- أعمال مادية أساسها الضرورة العملية قد يباشرها أشخاص عاديون أو أعضاء من السلطة العامة ، ولكنها ذات علاقة بالإجراءات الجنائية مثل قيام رجل الإسعاف بالبحث في ملابس المصاب للتعرف على هويته أو تحريز ما يوجد معه ، فيعثر على مخدر ،فهذا الإجراء على الرغم من كونه عملا ماديا وليس إجرائيا إلا أن ضبط المخدر مع المصاب يعد صحيحا ويعتد بالنتيجة التي أسفر عنها ،لان ما قام به رجل الإسعاف هو عمل اقتضته الضرورة ، ولذلك يطلق عليه مجازا تفتيش الضرورة (18) .

وكذلك ما يقوم به الشخص العادي من تحسس ظاهري لملابس وجسم المتهم الذي ضبطه متلبسا بجناية خشية حمله سلاحا يعتدي به عليه أو يضر به نفسه ، فيعثر معه على سلاح بدون ترخيص ،فهذا الاكتشاف يعد صحيحا ، لأنه عمل مادي أوجبته الضرورة العملية ، وُيطلق عليه التفتيش الوقائي، وأيضا ما يقوم به مأمور الضبط القضائي أو رجل السلطة العامة عندما يقوم بالبحث في ملابس المتهم – المقبوض عليه في جريمة لا تتطلب التفتيش كجريمة إهانة الموظف العمومي مثلا – قبل إيداعه غرفة الحجز فيعثر معه على شيء تُعد حيازته جريمة، فإنه يعتد بهذا العمل على الرغم من كونه ليس عملاً إجرائياً وإنما عمل مادي قُصد به البحث في ملابس المتهم خشية أن يحمل معه أشياء يضر بها نفسه أو غيره، وهذا الإجراء أساسه الضرورة العملية ويسمى التفتيش الوقائي(19).

وإلى اللقاء في الجزء الثاني حيث المبحث الثاني في مفهوم الشرعية الإجرائية وعلاقتها بالضرورة.

” المبحث الثاني ”

مفهوم الشرعية الإجرائية وعلاقتها بالضرورة

نتعرض في هذا المبحث إلى مفهوم الشرعية الإجرائية في مطلب أول وإلى علاقة الضرورة بالشرعية الإجرائية في مطلب ثان.

المطلب الأول

مفهوم الشرعية الإجرائية

تُعد الشرعية الإجرائية الجنائية إحدى حلقات الشرعية التي يخضع لها القانون الجنائي، حيث ظهرت الحلقة الأولى تحت اسم “لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون” وذلك لحماية الإنسان من خطر التجريم والعقاب بدون قانون، ولكي يكون في مأمن من رجعية القانون الجنائي وبمنأى عن خطر القياس في مجال التجريم والعقاب.

وهذه الحلقة الأولى فقط لا تكفي لحماية حرية الإنسان وحقوقه إذا كان في الإمكان اتخاذ إجراءات من شأنها المساس بها مع افتراض إدانته، لذلك كان لابد من ظهور الحلقة الثانية من حلقات الشرعية الجنائية ألا وهي الشرعية الإجرائية.

إن مبدأ الشرعية الإجرائية معناه أن يكون التشريع مصدر الإجراءات الجنائية، سواء كان تشريعاً دستورياً أم عادياً، لأن الإجراءات الجنائية تنطوي في جانب كبير منها على قدر من القهر والإجبار إزاء المتهم، وإزاء غيره في بعض الأحيان، كما تتضمن مساساً بحرية الأفراد وحقوقهم الأساسية، وقد تتخذ ضد أفراد لم تثبت إدانتهم بعد، أو تثبت براءتهم فيما بعد، ومن ثم تعين أن يكون التشريع مصدرها(1).

ولا تعني الشرعية الإجرائية اشتراط أن يقرر القانون الإجراء الجنائي فقط ، بل تتطلب أن يحدد القانون الشروط الشكلية والموضعية اللازمة لاتخاذ الإجراء، بحيث لو أغفلت أو تمت مخالفتها، صار مآل ذلك الإجراء البطلان ، وهي على هذا النحو تضمن سيادة القانون بوصفه أساس الحكم في الدولة، وتؤدي إلى الاستقرار القانوني الذي يُؤّمن الأفراد ضد المفاجآت التي تعرّض مراكزهم القانونية للخطر (2).

إن قانون الإجراءات الجنائية الذي تحكمه الشرعية الإجرائية لا يهتم أساساً بتحقيق الغاية من الإجراء الجنائي بقدر ما يهمه احترام الحرية الشخصية من خلال ما يقرره من ضمانات، فهذه الحرية هي المصلحة الأولى بالرعاية والأجدر بالحماية في نظر هذا القانون باعتباره أحد القوانين المنظمة للحرية الشخصية، ويُفترض في هذا القانون أن يكون مستنداً ومتفقاً مع المبادئ التي تضمن حرية وحقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق العالمية والقوانين الأساسية مثل الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية عام 1966،   والقانون رقم (20) لسنة 1991 بشأن تعزيز الحرية، ولذلك لا يجوز الوصول إلى الحقيقة وإقرار سلطة الدولة في العقاب إلا من خلال إجراءات جنائية تحترم الحريات والضمانات تحت إشراف ورقابة القضاء.

ومن ثم يقتضي مبدأ الشرعية الإجرائية احترام الحرية الشخصية للمتهمين وذلك باشتراط أن يكون القانون هو مصدر الإجراءات الجنائية – كما أسلفنا القول- وأن تفترض براءة المتهم في كل إجراء من الإجراءات التي تتخذ ضده، وأن يخضع تقدير تلك الإجراءات ورقابة سلامة تطبيقها للقضاء(3).

المطلب الثاني :

علاقة الضرورة بالشرعية الإجرائية

تُعد الضرورة من النُظم القانونية المستقرة في جميع فروع القانون، وهي استثناء على الأصل، وتُمثل الخروج على النصوص القانونية، بغية التوفيق والتنسيق بين المصالح المتنازعة التي تثور في الظروف الحرجة التي تعجز النصوص عن معالجتها، لذا فقد حرصت فروع القانون على النص على حالة الضرورة، وكيفية التعامل معها والإجراءات التي تتخذ في ظلها ومن بينها قانون الإجراءات الجنائية.

إلا أن الأمر في هذا القانون الأخير يختلف عن غيره من فروع القانون الأخرى، حيث تضمنت تلك القوانين نصوصاً تحوي في طياتها مبادئ النظرية العامة للضرورة، وبالتالي يجوز العمل بها كنظرية عامة متى توافرت شروطها، ومن ثم فإنه لا إشكالية في تطبيقها.

أما في الإجراءات الجنائية فتطبيق الضرورة يثير إشكالية لا تزال محل خلاف في الفقه بين مؤيد ومعارض(4) وتتمثل هذه الإشكالية في مدى إعمال الضرورة في الإجراءات الجنائية كنظرية عامة أو مدى تعارضها مع مبدأ الشرعية الإجرائية، ويمكن رد هذا الخلاف إلى اتجاهين :

– الاتجاه الأول : يرى العمل بالضرورة بناء على نص في قانون الإجراءات الجنائية: في هذه الحالة ينص المُشرّع على بعض تطبيقات الضرورة في الإجراءات الجنائية، ولا خلاف بين الفقهاء في العمل بالضرورة في هذا الشأن سواء كان من شأن تطبيقها المساس بحرية الأفراد، أي الإنقاص من ضمانتهم لمصلحة الهيئة الاجتماعية، أو زادت من ضمانتهم الإجرائية على حساب مصلحة المجتمع، فما دام التشريع مصدرها، فإنه من المفترض أن يكون المُشرّع قد وازن بين مصلحة الدولة في العقاب ومصلحة الأفراد في الحرية، ورأى أن من شأن إعمال الضرورة إنهاء النزاع بين المصلحتين وترجيح الأجدر بالرعاية.

ومن ثم فلا يوجد تصادم بين الضرورة والشرعية الإجرائية في هذه الحالة لأن الضرورة وجدت مصدرها في التشريع الإجرائي.

– الاتجاه الثاني : يرى العمل بالضرورة كنظرية عامة في الإجراءات الجنائية:

في هذه الحالة يُعمل فيها بأحكام الضرورة كنظرية عامة من قبل الجهة القائمة بتطبيق قانون الإجراءات الجنائية وهي ما أطلقنا عليها الضرورة العملية، للتفرقة بينها وبين الضرورة التشريعية التي تم تناولها في الحالة الأولى.

إذ قد تواجه الشخص الإجرائي ظروفاً ملجئة يضطر فيها إلى مخالفة التنظيم الإجرائي، وفي سبيل توضيح هذا الاتجاه ينبغي التمييز بين ثلاثة فروض :

* الفرض الأول :

إذا كان من شأن العمل بالضرورة دعم حرية المتهم وزيادة ضماناته الإجرائية بالمخالفة للتنظيم الإجرائي، ففي هذه المسألة لا يتعارض العمل بالضرورة كمبدأ عام في الإجراءات الجنائية مع الشرعية الإجرائية، لأن إعمالها على هذا النحو من شأنه التأكيد على قاعدة أساسية تحكم التنظيم الإجرائي برمته، وهي أن الأصل في المتهم البراءة، والأمثلة على ذلك كثيرة : منها إجراء المحاكمة في غير علانية خلافاً للأصل الإجرائي، إذا كان من شأن ذلك تحقيق مصلحة للمتهم أولى بالرعاية من المصلحة التي رأي المُشرّع حمايتها وامتداد مواعيد الطعن بالنسبة للمحكوم عليه المريض الذي لم يستطع الطعن في الميعاد (5).

* الفرض الثاني :

يُفترض في هذه الحالة أنه يعمل بأحكام الضرورة بمناسبة الخروج على بعض الإجراءات التنظيمية الواردة في الإجراءات الجنائية، وخاصة تلك التي لا يترتب على إعمال الضرورة بشأنها المساس بحريات الأفراد وحقوقهم الأساسية والأمثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر انتداب كاتب غير مختص لتدوين التحقيق الإبتدائي، وتجاوز مأمور الضبط القضائي لحدود الاختصاص المكاني للضرورة.

ففي هذه الحالات يتعين أن تمنح الجهات المخولة بتطبيق قانون الإجراءات الجنائية سلطة تقديرية لإعمال نظرية الضرورة في الإجراءات الجنائية متى توافرت شروطها، ذلك لأن جوهر الإجراءات الجنائية هو الكشف عن الحقيقية(6).. ومن ثم يجب أن تكون للجهات السابقة سلطة التقدير الذي يتيح لها التعامل مع الحالات الواقعية بالأسلوب الملائم، حيث قد تلتبس تلك الحالات بظروف مفاجئة، تقتضي حينئذ العمل بأحكام الضرورة، للوصول إلى الحقيقية لأن المجتمع بقدر ما يهمه براءة البريء يهمه في الوقت ذاته إثبات إدانة المذنب والقصاص منه، وبالتالي تحقيق العدالة.

وبناء عليه فإن إعمال الضرورة الإجرائية كمبدأ عام في هذا الفرض، ورغم مخالفته الشكل الإجرائي المقرر قانوناً، لا يتناقض مع الشرعية الإجرائية، لأنه مستند إلى شرعية الضرورة التي تُعد مبدأً عاماً في القانون ولا تحتاج إلى نص(7)، فهي مشروعية ضد مشروعية،(8) أي أن الإجراء الذي يتخذ في ظل الضرورة يكون مشروعاً، متى تحققت شروط الضرورة التي اقتضت ذلك، ويخضع تقدير شروط الضرورة ومدى توافرها لرقابة القضاء بدرجاته المتعددة.

وفي سبيل التفريق بين الإجراءات الجنائية التي يجوز إعمال الضرورة بشأنها وتلك التي لا يجوز فيها ذلك، يتعين الرجوع إلى علة التشريع، فإذا كانت إرادة المُشرّع قد ابتغت من وراء تنظيم الإجراء إعلاء حق من حقوق الفرد وإضفاء الحماية الخاصة عليه، فإنه لا يجوز إعمال الضرورة في هذا الشأن، أما إذا كان اتجاه إرادة المُشرّع غير ذلك، كأن تكون علة التشريع من وراء الإجراء غاية تنظيمية ليس من شأنها المساس بحرية الفرد وحقوقه الأساسية في الدفاع، فإنه لا ضير من إعمال الضرورة بشأنه متى توافرت شروطها، ويخضع ذلك لرقابة القضاء.

الفرض الثالث :

إذا كان من شأن العمل بالضرورة في الإجراءات الجنائية كنظرية عامة، الإفتئات على حريات الأفراد والمساس بحقوقهم الأساسية الواردة في التنظيم الإجرائي التي كفلها لهم المُشرّع -الدستوري أو العادي- وأضفى عليها حماية خاصة، ففي هذه الحالة يجب ألا تكون حريات الأفراد وحقوقهم الأساسية التي أعلاها المُشرّع وأحاطها بسياج من الحماية والحصانة، محلاً للتقدير من قبل الجهات المناط بها تطبيق قانون الإجراءات الجنائية.

وبالتالي لا يجوز إعمال الضرورة في هذا الشأن كنظرية عامة، ذلك لأن الإجراءات الماسة بحريات الأفراد أوردها المُشرّع على سبيل الحصر والتحديد، وهي استثناء اقتضته ضرورة المحافظة على كيان الهيئة الاجتماعية، ومن ثم فإنه من هذا المنطلق لا يجوز إعمال الاستثناء على الاستثناء، وأنه وفقا للقاعدة الفقهية يجب ألا يُزال الضرر بالضرر(9).

بالإضافة إلى أن العمل بالضرورة في الإجراءات الجنائية بالنسبة للإجراءات التي تمس حريات الأفراد وضمانتهم الإجرائية يُعكر صفو الاستقرار القانوني الذي ينشده المُشرّع – ويطلق يد الجهات المناط بها تطبيق قانون الإجراءات في المساس بالضمانات المقررة لحماية حريات الأفراد تحت ستار الضرورة الإجرائية(10).

لذا فإنه يتعين عدم المساس بحريات الأفراد وحقوقهم الأساسية التي كفلها لهم المُشرّع إلا بالقدر الذي مُست به بموجب القواعد الواردة حصراً في التنظيم الإجرائي.

وعليه فإنه لا يجوز تفتيش الأنثى من قبل رجل في حالة عدم وجود أنثى حتى لو قامت الضرورة وتوافرت شروطها، لأن المُشرّع أوجب تفتيش الأنثى من قبل أنثى مثلها، وبالتالي يجب ألا يكون هذا الحق وتلك الضمانة محلا للتقدير(11).

كما أنه لا يجوز حرمان الفرد من قاضيه الطبيعي، أو اختصار درجات التقاضي بحجة ضرورة سرعة الفصل في الدعاوى، أو منع الطعن في بعض الأحكام، أو حرمان المتهم من بعض الضمانات الإجرائية، لأن ذلك لا يكون إلا على حساب الحقوق والحريات الفردية التي كفلتها القوانين الأساسية وتشريعات الإجراءات الجنائية(12).

الخاتمة

بعد أن انتهينا من سلسلة هذا البحث المتواضع، فإننا نخلص إلى نتيجة مؤداها أن الضرورة الإجرائية – وفقا للعرض السابق- والشرعية الإجرائية أمران غير متناقضين، بل يتفقان في سبيل تحقيق الهدف المنشود من النظام الجنائي بأكمله، وهو مكافحة ظاهرة الإجرام مع احترام حقوق الإنسان وحرياته في آن واحد.

وفي سبيل اكتمال حلقات الشرعية الإجرائية في القانون الليبي، نقترح في نهاية هذه الدراسة على الجهة المختصة بالتشريع، وهي المؤتمرات الشعبية الأساسية، إعادة النظر في قانون الإجراءات الجنائية وتعديله بحيث يتضمن المبادئ التي تضمن حرية وحقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق العالمية والقوانين الأساسية،   والقانون رقم(20) 1991 بشأن تعزيز الحرية، وإلغاء أي نصوص يكون من شأنها المساس بالضمانات الإجرائية للأفراد المتهمين بارتكابهم جرائم معينة، المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية مثل المادة 187 مكرر(أ).