.عبد اللطيف ابو هدمة

القصاص هو عقوبة مقدّرة تجب حقاً للفرد، فنجدها تتفق مع جرائم الحدود، حيث العقوبة مقدّرة في كلتا الجريمتين، ولكن الاختلاف يبدو واضحاً لصالح من تكون هذه العقوبة..؟ أو بمعنى أوضح من هو صاحب الحق فيها ..؟ ففي جرائم الحدود نجد حق الله هو الغالب، ولايُثار نقاش في هذا الصدد إلا في جريمة القذف، كما لا يجوز العفو فيها.

أما القصاص فيبدو حقاً للعبد، حيث لا تطبق العقوبة إلا بناء على طلب المجني عليه، والشريعة الإسلامية أخذت بالمبدأ في هذا النوع من الجرائم، حيث حددت الجرائم والعقوبات تحديداً غير قابل للشك أو التأويل، كما نصت على تطبيق القصاص في القتل، وإتلاف الأطراف عمداً، والجرح العمد، أما الدية فتطبق في حالة العفو من صاحب الحق في القصاص أو قيام مانع شرعي من تطبيق الحد.

أدلة التجريم :

من أدلة التجريم في جرائم القصاص والدية ما جاء في قوله تعالى :(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).

وقوله تعالى :(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأثنى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان).

ويقول -صلى الله عليه وسلم- :” من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين:ان أحبوا فالقود -أي القصاص-، وإن أحبوا فالعقل-أي الدية-“.

أنواع الجــرائم في القصاص والدية :

القتل العمد :

وهو أن يقصد القاتل قتل المجني عليه بضرب محدد، أو بإحراق أوم خنق أو سم أو أية طريقة من طرق القتل العمد.

في هذه الحالة يوجب القصاص، غير أن أباحنيفة يرى عكس ذلك، حيث يرى أن القصاص يُوجب في القتل بالحديد.

القتل شبه العمد :

وهو الجريمة التي لايقصد مرتكبها قتل المجني عليه، وتأخذ غالباً الضرب وسيلة لها، وهناك خلاف بين الفقهاء، حيث يرى بعضهم والمشهورون منهم أنه يجب تكييفها كالقتل العمد، ويرى البعض الآخر أنه يجب أن تكون كالقتل الخطأ، غير أن هناك فريقاً ثالثاً يرى ضرورة تغليظ الدية وفقاً لمذهب الشافعي.

القتل الخطأ :

وهو الفعل الذي ينتج عنه القتل دون أن يكون الفاعل قاصداً فعله، فلا قصاص في هذه الحالة، مثال ذلك شخص يريد أن يرمي صيداً فرمى شخصاً ماراً في منطقة الصيد، أو حفر بئر فوقع فيه إنسان، ففي الأمثلة السالفة ذكرها نجد أن الجاني لم ينو قتل المجني عليه، ولا يوجد لديه قصد جنائي على حد تعبير القوانين الوضعية، ففي هذه الحالة تنتفي العلة من القصاص، وقد جاء قوله تعالى 🙁 وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وكان الله عليماً حكيما).

ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دفع دية القتل الخطأ : ” عشرون حُقة وعشرون جذعة، وعشرون بنت محاض، وعشرون بنت لبون”.

وهذان النصان يُحرمان القتل ويحددان العقوبات، غير أن الدية في وقتنا الحاضر ليس بالإمكان دفعها، وذلك بسبب اختلاف قيمة الإبل مع بقاء قيمة الفرد دائماً على ما هي عليه، فكيف يمكن تطبيق هذه الدية إذا كانت الناقة يبلغ ثمنها تسعمائة دينار ليبي، إن لم يكن أكثر من ذلك.

الجروح وعقوبتها :

حدد الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعض الجروح وترك البعض الآخر والجروح المحددة هي :

1-أرش الموضحة : وهي الجروح التي تصيب الرأس وتكشف العظم، وجعل عقوبتها خمسة من الإبل.

2 – أرش الهاشمة : وهي الجروح التي تهشم العظم، وجعل عقوبتها عشرة من الإبل.

3- أرش الأمة والدامغة : وهي الجروح التي تصل إلى الجلدة القريبة التي تغطي المخ، وجعل عقوبتها ثلث الدية.

أما الجروح التي لم تحدد فيجبل تحديدها عن طريق أهل الخبرة، ولكن بشرط عدم وصول ديتها إلى مستوى الجروح المنصوص عليها.

كما حددت العقوبة في قطع الأطراف، فيجب دفع دية كاملة إذا كان العضو المقطوع يوجد منه واحد في جسم الإنسان، مثل اللسان، وعضو الذكر، أما إذا كان العضو يوجد منه اثنان في جسم الإنسان فتكون العقوبة نصف الدية، مثال ذلك قطع اليد، وفقأ العين، حيث حددت العقوبة بخمسين من الإبل.

شروط القاتل : يجب أن يكون بالغاً عاقلاً، فلا قصاص على الصبي والمجنون، مع اعتبار أفعالهما في حكم القتل الخطأ، أما السكران فيُعاقب بالقصاص، أما المأمور إذا كان مأموراً لرئيس يجب عدم مخالفة أوامره -مثال ذلك تنفيذ الأوامر العسكرية- ففي هذه الحالة يجب تطبيق القصاص في حق الآمر والمأمور، أما إذا لم تكن طاعة الأمر واجبة يقتص من المأمور فقط.

شروط المقتول :لا يُقتص إلا إذا كان المقتول مساوياً له في الدم أو أعلى منه، فلا قصاص للأدنى من الأعلى، ولا قصاص للكافر من المسلم، ولا قصاص للعبد من الحر، وهناك من يرى أنه لا قصاص في حالة قتل الرجل للمرأة، وبالرغم من هذه الخلافات نرى أن الأمر أصبح متساوياً ما دامت النتيجة هي إزهاق الروح، خصوصاً وأن الدين الإسلامي دين عدل ومساواة ولا يؤمن بالفوارق الطبقية، كما أن الآيات التي تفرق بين العبد والحر قد نسخت.

مبدأ الشرعية في جرائم التعازير

في الحقيقة إننا لا نريد تأكيد المبدأ من عدمه في هذا النوع من الجرائم من الوهلة الأولى، بل سوف نتعرض لدراسة الآراء المؤيدة للمبدأ والمعارضة له حتى نستطيع أن نستخلص ما إذا كان قد أُخذ بالمبدأ من عدمه في هذا النوع من الجرائم.

التعريف اللغوي : هو التأديب وأصله من العزر، وهو المنع ومنه قوله تعالى :(تعزروه) بمعنى العدو عنه ومنعه.

التعريف الفقهي : التعزير عقوبة غير مقدرة تجب حقاً لله والآدمي في كل معصية ليس فيه حد أو كفارة، وهي تتفق مع الحدود، حيث تهدف إلى التأديب والإصلاح والزجر وتختلف عن الحدود في الآتي :

1 – تعزير ذوي الهيئات أخف في جرائم التعازير، وتتساوى في الحدود، والحقيقة أن المقصود بذوي الهيئات هم أصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة، فيرى بعض الفقهاء أنه يجب أن يختلفوا في تعازيرهم عن العامة، ويبررون هذه النظرة الطبقية بأن هؤلاء قابلين أكثر من غيرهم للإصلاح، وأن ارتكابهم للمخالفة لا ينم عن شخصية ذات خطورة إجرامية، وقد جاء تأييد لمعاملة هؤلاء معاملة مختلفة عن أهل البذء والسفاهة في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-:”اقبلوا ذوي الهيئات عزاءهم”.

2- جرائم التعازير يجوز فيها الشفاعة والعفو من ولي الأمر، وهي على عكس جرائم الحدود.

التعازير حق لله وحق للعبد، والحقوق في التعازير تنقسم إلى قسمين، منها ما هو حق لله، ومنها ما هو حق للعبد، والمقصود بحق الله هو الحق الذي يحقق منع ضرر عام عن الناس ولا يُقصد به رفع الضرر عن أشخاص محدودين مثل تلك الأفعال التي تمس فرداً بعينه، ولكنها تشكل خطورة على العامة فتكون العقوبة التعزيرية مانعاً عاماً لمحاربة الفساد داخل الأمة، ومن حقوق الله الخالصة تعزير فاطر رمضان، وتارك الصلاة، وحاضر مجلس الشرب، أما حق العبد فهو الحق الذي يتعلق به مصلحة أحد الأفراد.

ولكن هناك بعض الحالات التي يكون التعزير فيها حقاً لله تعالى وحقاً للفرد ولكن الطابع الغالب فيها هو حق الله تعالى، مثل تقبيل الزوجة آخر وعناقها والخلوة بها ومع ذلك قد يكون أحياناً حق الفرد غالباً على حق الله، مثل ذلك في السب والشتم، حيث يتم بشكل اعتداء على شرف وكرامة الفرد، ففي هذه الحالة نجد اعتداء على حق الله لأن الشارع حث على كف الأيدي عن الغير.

النتائج المترتبة على التفرقة :

1- في حالة التعزير الواجب حقاً للفرد إذا كان حقه غالباً على حق الله، لا يُطبق التعزير إلا بناء على دعوى من المجني عليه، ولا يجوز للقاضي إسقاط حقه أو العفو أو الشفاعة.

2- التعازير الواجبة حقاً لله يجوز لكل فرد أن يقيمها وقت القيام بالمعصية استناداً إلى أنها من باب إزالة المنكر.

3- إذا كان التعزير حقاً للفرد يجوز تكرار العقوبة بتكرار الجناية، أما إذا كان حقاً لله فلا يُقام إلا تعزير واحد.

4- من ناحية انتقال فإن ذلك يكون الإرث في التعازير التي تكون من حق الأفراد من جانب المجني عليه لا من جانب الجاني، بمعنى أن المجني عليه إذا مات جاز لأهله حق المطالبة بالتعزير، على عكس ما إذا مات الجاني فلايجوز مطالبة ورثته، أما إذا كان حقاً لله فلا يُورث، لأن حقوق الله لا تنتقل بالوراثة، غير أنه لا يوجد حق خالص للفرد، فما من حق للفرد إلا يكون متعلقاً به حق المجتمع بأسره ولو كان ذلك بطريق غير مباشر.

أقسام التعازير : تنقسم التعازير إلى ثلاثة أقسام :

1- تعزير على المعاصي : ويُقصد بمفهوم المعصية إتيان أفعال حرمت الشريعة القيام بها وترك الأفعال الواجب القيام بها.

2- تعازير يُقصد من ورائها تحقيق مصلحة عامة، وتكون على أفعال لم تُحرم لذاتها، وإنما حُرمت بأوصافها، ولا يشترط أن يكون الفعل معصية.

3- تعازير على المخالفات : وهي الأفعال التي حُرمت بذواتها ولكنها ليست معصية.. والفرق الجوهري بين هذه الأقسام الثلاثة هو أننا نجد القسم في الأول عنصر التجريم بصفته دائماً، أم القسم الثاني فإن تجريمه ليس على سبيل الديمومة، ولا يقوم التجريم إلا بتوافر وصف معين، أما القسم الثالث فيكون إما مأموراً به أو منهياً عنه، وفي الحالتين يعتبر ما أُمر به أو نُهي عنه مخالفة وليس معصية.

أنواع العقوبات في التعازير : سبق أن تحدثنا عن العقوبة في التعازير، ورأينا أنها غير مقدرة سواء أكانت حق الله أو حقاً للعبد، بل هي متروكة لولي الأمر يحددها بحسب ما يراه كافياً ومحققاً للردع العام والردع الخاص، وعدم التحديد لم يأت جزافاً أو قصوراً في الشريعة الإسلامية، ولكن كان ذلك لحكمة، إذ أن المولى -عز وجل- حدد بعض الأفعال التي لا تختلف من وقت إلى آخر، وتأثيرها دائم والنظرة إليها مستهجنة في المجتمع الإسلامي، فنص عليها وحددها في جرائم الحدود والقصاص، أما التعازير فهي من العقوبات المرنة التي جعلها الله سبحانه وتعالى من اختصاص ولي الأمر في المجتمع الإنساني نظراً لتجدد الأحداث وتغير أحوالها، كما أن النظرة إلى النظام العام والمصلحة العامة متغيرة، فلو حددت الأفعال سلفاً واسُتحدثت بعض الأفعال سيصبح من الصعوبة بما كان ايجاد عقوبات لهذه الأفعال، وبالتالي يفلت العديد من المجرمين في حق المجتمع من العدالة، نظراً لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وما لم يُجرّم الفعل فلا عقوبة عليه وهذا أحسن دليل على مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، أما العقوبات التعزيرية فهي كثيرة ومتنوعة فكل ما لم يُطبق فيه حد أو قصاص يدخل في إطار العقوبات التعزيرية، وأهم هذه العقوبات : القتل، الضرب، النفي، الحبس، التعزير بأخذ المال، العزل، التوبيخ.

وبعد هذا التحديد سنتحدث بإيجاز على سبيل المثال عن بعضها :

عقوبة القتل تعزيراً : هناك اختلافات بين الفقهاء في شرعية عقوبة القتل تعزيراً، فالعديد منهم يُجيز هذه العقوبة مثال المالكية، حيث أجازوا القتل في جريمة التجسس لصالح العدو وأيدهم في ذلك بعض الحنابلة كابن عقيل، وقد دب الخلاف بينهم حول قتل شارب الخمر وهل يعتبر حداً أم تعزيراً، وإذا أخذنا حديث قبيصة ابن ذويب الذي قال فيه إن الرسول -صلى الله عليه وسلم قال :”من شرب خمراً فاجلدوه شخصاً شاربا فإن عادها جلدة وإن عادة المرة الثالثة أو الرابعة فكانت العقوبة الجلد ورفع القتل فكانت رخصة”، وعند أبي حنيفة يجوز القتل في حالة فساد الجاني وعدم قابليته للإصلاح، كما أجازت طائفة من أصحاب الشافعي قتل الداعية لمخالفة الكتاب والسُنة.

أما المعارضون لعقوبة التعزير بالقتل فقد استندوا إلى حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه :”لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة” ويرون أن هذه العقوبة مطبقة في ثلاثة حالات ولا يجوز أن تطبق فيما لم يرد في هذا الحديث.. ويرى المؤيدون للقتل تعزيراً أن هذه العقوبة وردت في العقوبات المحددة، وبما أنه نص عليها كعقوبة هذا دليل على مشروعيتها، أما تنظيم استخدامها فهذا شيء آخر غير المشروعية.

يتبع