توقف بي الزمن وروحي معلقة بين سماء وماء، وعيوني تدور في محجريها دون هدى تحيطني عشرات الملامح الخالية من الحياة وكأنني أجلس داخل تابوت متحرك تتلاطمه الأمواج العابثة دون رحمة، احتضنت صغيرتي بشدة خوفا من أن يخطفها أحد النوارس الجائعة فكما أجبرت من دون علم تلك الأسماك الصغيرة على إلتهام لحوم البشر فمن المؤكد أنها ستحذو حذوها هذه النائحة فوق رؤوسنا لتخطف قطعة لحم من كتف هذا الذي بجانبي أو قطعة من جلد رأس التي تقابلني وملاصقة لي…! ماذا حدث..؟! كيف نسيت هؤلاء الذين يتضورون جوعاً ويكتظ بهم المكان؟ وصببت جام تفكيري في المُحلقات فوق رؤوسنا فكم من أشخاص ذهبوا ضحية جوع من رافقوا حين انقطع عنهم الماء والغذاء.
رُحت أراقب بخوف، عيون تحوطني أنتظر أن ينقض على أحدهم ويخطف ابنتي أو قد ينهشني بدلاً منها فماذا عساي أفعل؟! من دون تفكير سأقفز في الماء لأموت غرقاً وأصبح وجبة للأسماك أفضل من أن أتحول لوجبة أدمية لمن هم من بني جنسي..
ماذا حدث لي؟! ما هذه الأفكار التي بدأت تخطر علي وتلاحقني ؟! إنه الجوع والعطش والضياع فوق صفحة زرقاء لا نرى لها نهاية حتى الان..
لقد كان هذا هو الحل الوحيد للهروب من أرض أصبحت تلتهب تحت نار الحديد والجوع والفقر، الهروب من أرض أصبح فيها إزهاق الروح البشرية يعادل قتل صرصور.
زوجها راح ضحية حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل وتركها وحدها تصارع من أجل البقاء حية هي وابنتها، إنها ( ثناء ) الفتاة ذات (24 ) ربيعاً، لم يمر على زواجها العام حتى دخلت البلاد لسراديب الحروب والاقتتال المظلم، وتوالت السنوات على أمل أن يستيقظوا ذات نهار على صوت زقزقة العصافير بدلاً من دوي الانفجارات وأصوات الرصاص الصادح في كل مكان.
لم يعد زوجها يطيق هذه الحياة، فالحر جفف عظامهم والبرد حطمها، وليس بيديه حيلة فالغذاء قل وإن وجد اشتعلت أسعاره، وتشتعل في رأسه نار أخرى، أجل نار أخرى قد تكون برداً وسلاماً أو أنها ستأتي على ما بقى من عظامهم.
أخذ يبحث ويسأل من حوله فكانت الإجابات بين مؤيد لها وناوي على الخوض فيها، وبين معارض يفضل أن يختلط رفاته بهذه الأرض التي ولد عليها على أن يقذف بنفسه داخل فم المارد الأزرق.
حزم أمره وصارح زوجته ، انتفضت،صرخت، رفضت، ثم انطفأت أمام لهيب الواقع المر والصور المتلاحقة للألم والعذاب والعجز عن أبسط الأشياء، أن تتنفس هواء نقياً خالياً من دخان القذائف والقاذورات التي تنتشر هنا وهناك والتي تنبأ بأوبئة قد طورت من نفسها لتواجه البشر وتقضي على من بقي منهم جمع شتات نفسه وما بقي من حطام الدنيا ( للجنة الموعودة ) كما وصفها له الكثيرون؛ ويأبى القدر أن يمنحه ذلك؛ وتأبى الأرض أن يفارقها لتتوقف دقات ساعاته وقلبه في صبيحة يوم غائم برصاصة استقرت بين عينيه لتخرج آخر كلماته آهات مكتومة مبعثرة أمام عتبة داره المتداعية.
أخرسها المنظر ولم يوقظها إلا صراخ طفلتها المتعالي وكأنها أحست بفقد سندها وحاميها، هرع إليها بعض الجيران ومرت عليها الساعات الطوال، وهي في حالة ذهول لتستيقظ على كلمات أخيها بأن الموعد حان، لم يعد هناك ما يبقون لأجله، سيرحلون الليلة هكذا خطط زوجها مع مجموعة أخرى.
جمعت مابقي من نفسها وتوجهت نحو الشاطئ لتجد العشرات أمامها يتجهون لنفس المصير تدافعوا نحو القارب الذي سيحملهم إلى أحلامهم ليجلسوا متلاصقين هي كيلومترات بحرية معدودة وتكون النجاة، هكذا زينت لهم هذه الرحلة، نفذ الماء والغذاء وتساقط بعضهم كالحجارة في قعر الماء وبدأ بعضهم يدخل عالم الهلوسات السمعية والبصرية وأصبحت ( ثناء ) يترائى لها من حولها على أنهم ذئاب تنتظر أن تلتهمها هي ورضيعتها في أي ثانية غافلة وتغيب عن الوعي لتستيقظ على صوت همهمات وكلمات غير مفهومة، ( أين أنا )؟! أخذت تتسائل في نفسها وفجأة تدب الحياة فيها وتقفز باحثة عن رضيعتها وراحت تجري كالمجنونة هنا وهناك داخل مبنى عتيق لم تتبين ما هو، حتى وجدت ابنتها ممدة على سرير عتيق يحيط بها أشخاص يقلبونها يميناً ويسار، شقتهم واختطفت صغيرتها وأخذو يهدئون من روعها ويحاولون التفاهم معها ومن بين الحشود كان هناك من يفهم لغتهم وأخبرها بأنهم أطباء يكشفون على الصغيرة فلا داعي للخوف، رغم ذلك كان ناقوس الخطر لا يزال يدق بداخلها.
خرج من كان يدعي أنهم فريق طبي، هدأت من روعها وبدأت تجول ببصرها في المكان فإذا هو مستودع قديم يعج بمئات من جنسيات مختلفة ومنهم من مدينتها المنكوبة وبحذر شديد اقتربت من إحداهن وأخذت تسأل أين هم الآن؟!، أطرقت سمعها ، كان الجو شبه هادئ تخالطه همهمات المتواجدين بالمكان ويرتفع بين الحين والآخر أصوات أطفال يصرخون ( عادي ) هكذا حدثت نفسها الأهم من ذلك لم يعد لصوت رصاص مكان بين كل هذه الأصوات.
في اليوم التالي استيقظت ( ثناء ) على صراخ امرأة يملاء المكان وعندما سألت ماذا هناك أخبروها بأن طفل السيدة الصارخة ( ذو 8 سنوات ) مختفي منذ الليلة الماضية لم يكن الاختفاء الأول من نوعه هناك أطفال وسيدات ورجال أيضا يختفون بين الحين والأخر دون أي أثر وتأرجحت الأقاويل بين هروبهم وبين انتهاء المختفين بين أيدي تجار ( السوق الحمراء ) اتسعت عينا (ثناء ) ذهولاً عند سماعها جملة (تجار السوق الحمراء ) فمن هم وما السوق الحمراء التي عنها يتكلمون؟! فأخبروها بأنهم أناس ( إذا صح وصفهم) لا قلوب لهم يستغلون من يقذف بهم البحر هاربين من أراضي النزاعات التي تشتعل هنا وهناك، للمتاجرة بهم، سألت وكيف لهم أن يتاجروا ببشر مثلهم ؟ فأخبروها عادي كما يتاجرون بالمواشي والذبائح ليس هناك فرق في بلد غرباء نحن عنه وبتطفلنا عليهم لهم أن يفعلوا بنا ما يشاؤون.
أخذت تحدث نفسها أيعقل هذا ؟! وقبل أن تكمل حديثها مع نفسها يندلف أحدهم مهرولاً داخل المكان وهو يلهث ويصرخ بكلمات غير مفهومه ليتبين فيما بعد أنه جاء ليحذرهم من كون من يدعون أنهم أطباء ويكشفون عليهم بين الحين والأخر ما هم الا جزاري لحوم بشرية يقومون بمعاينة بضائعهم الذين هم نحن؛ فقد شاهد بأم عينه كيف يدخلون أناس لغرف عمليات ليخرجوا أشلاء ممزقه ولقد استطاع بقدرة قادر الهروب منهم وجاء ليحذرهم بأنهم سيلاقون نفس المصير، إن لم ينقذوا أنفسهم كيف ذلك؟ فهم في بلاد غريبة لا يعلمون عنها شيئا، ولم يستطيعوا إلى حد الان تخطي سور المبنى العتيق؛ ( لا يهم المهم أن تنقذوا أنفسكم )هذا ما خاطبهم به الناجي من مشرط الجزارين.
لم تعد قدما ( ثناء ) تحملها من هول ما سمعت جلست في ذهول وتوالت الصور أمام عينيها وذاكرتها، وتوالت أمنيات زوجها ( المغدور ) بالسفر إلى أرض الأحلام بعيداً عن رصاص المتقاتلين، وتمثلت أمامها صورة زوجها وهو مضرجاً بدمائه أمام الدار، وراحت رحلة التأرجح على بساط الموت الأزرق تمر أمامها لتصل في نهاية الأمر وتجد نفسها مع غيرها من عاثري الحظ داخل حظيرة بشرية مصيرها مجهول؟!!
أهذا هو النعيم المنتظر؟!!!
قصة ( ثناء ) تشبهها مئات القصص بل الالآف وإن اختلفت الأسماء والأماكن لأشخاص أجبرتهم التوترات القائمة في بلدانهم على البحث عن الأمان المال بكل الطرق مهما كانت التضحيات في أماكن أخرى، ليتمخض هذا الواقع المرير عن وحوش همها الأول والأخير الربح وإن كان على حساب آدميتهم وأطلقوا على سوقهم هذه اسم (السوق الحمراء ) يتاجرون فيها بالأجزاء البشرية الأكثر طلباً كالكلى ، والكبد ، والقلب ، وغيرها حتى العظام البشرية عليها الطلب، ولا يخلو الأمر من المتاجرة بالأطفال وبيع أجسادهم لسوق الدعارة والراغبين في اقتناء طفل لمن لا يمكنهم الإنجاب ( أنت تمتلك المال، وتمتلك حق شراء ما تريد!!! ).
الموضوع بدأ يفرض نفسه ويطفو على السطح بعد أن كان في السابق يحيطه الغموض والسرية التامة، والإحصائيات وإن كانت غير محددة وغير معلومة فهى مخيفة ولابد من تكاتف الجهود للحد من ذلك.
إما أن يكون لنا وطن آمن حتى لا ينتهي الحال بك أو بي أجزاء في أوطان غريبة عنا، أو ننتهي في بطون أسماك أصبحنا ضمن سلسلتها الغذائية، أو وجبة شهية لسرب أو أسراب من الحشرات الآكلة للحوم…..
الخيار صعب والوضع أصعب، كالمستجير من الرمضاء بالنار…
إن ليبيا ( كونها ضمن المجتمع الدولي ) ترتبط بعلاقات واتفاقيات وعقود ومعاهدات ومواثيق تنظم مجتمعها سواء داخليا أو خارجياً.
أما فيما يخص ( موضوع الهجرة والإتجار بالبشر ) فإن ليبيا بما أنها عضو في الجمعية العمومية للأمم المتحدة فقد كانت في أول الدول الموقعة والمصادقة على ميثاق مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود وبروتوكول باليرمو المتمم له الذي يعتبر الأساس القانوني الدولي حيث وقع في سنة 2000م في مدينة باليرمو الإيطالية، وبما أنها وقعت على الاتفاقية والبروتوكول التابع لها في 13/11/2011م والمصادقة 24/9/2004م فلقد بدأت ليبيا فعليا منذ سنة 2013 في العمل على سن قانون محلي ووطني يختص بمكافحة الاتجار بالبشر ضمن خطة وزارة العدل بهذا الشأن وبالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ( UNODC) .
فالحاجة ماسة للعمل على ذلك للحد من هذه النشاطات الإجرامية التي تهدد المواطنين في ليبيا وتضعهم عرضة للاستغلال والمعاناة فالتجار بالبشر لا ينظرون للشخص بصفته أو لونه أو جنسه ما يهمهم هو الربح ، والربح فقط.
بقلم/ زكية رمضان سعيد