بقلم / زكية رمضان سعيد

ما زالت حكايات جدتي (رحمها الله) تتوالى على ذاكرتي وتخطر على بالي؟ حكاياتها كانت دائماً ذات معانٍ وتحمل من الغموض ما يجعلها تتأرجح بين الواقع والخيال.

أحببتها جداً وأحببت رائحة الغموض التي تفوح من قصصها، وأصبحت شغوفة ً بكل ما هو غامض وغريب، حتى إن أبي يحذرني من انغماسي في عالم الماورائيات واندفاعي نحو السراديب المظلمة والقبور الملتهبة بلا سبب والانحراق الذاتي الذي مازال غامضاً كغيره إلى حد الإن والخيالات المتلاحقة والمتعاقبة على الجدران ليتبعها بضحكة عالية مجلجلة أستيقظ بعدها من لحظة ذهول استطاع والدي وبجدارة انتزاعها مني دون سابق إنذار وان أتابع كلماته لأنفض رأسي مبتسمة محدثة نفسي..( تبقى كل تلك الأحداث حكايات..)حتى كان ذاك اليوم الذي انتقلنا فيه من مدينتنا إلى مدينة أخرى كالعادة بسبب عمل والدي كونه مدرساً لمادة الرياضيات، فبعض مدن دولتنا تعاني من نقص مدرسين في مواد معينة لذلك رأت وزارة التعليم، إعادة جدولة وتوزيع للمدرسين بشكل دوري وحسب احتياج كل منطقة في هذا البلد.

طوال سنوات عمري (الخمس والثلاثين) لا أذكر بأننا قد أقمنا أكثر من عامين أو ثلاثة في أية مدينة أو قرية حللنا بها، لننتقل بعدها لمدينة أخرى وهكذا، كانت أمي ضجرة من كثرة تنقلنا، وأرادت أن نستقر، فما عادت كما تقول تحتمل الانتقال من مكان إلي آخر فما أن تبدأ بالاعتياد على المكان حتى يفاجئها والدي بأمر الانتقال الوزاري ليبدأ مسلسل التذمر السنوي.

(ان الأوان لتقدم طلباً بإعفائك من الانتقالات بين المدن فعائلتك كبرت ونحن كبرنا أيضا آن الأوان لنستقر ونلتقط أنفاسنا اجدة…تكلمي عن نفسك أنت من كبر بالعمر أما أنا فمازلت صغيرا ولا زالت الحياة أمامي) ليتبع أبي جملته هذه بضحكة مرحة وغمزة عين.

أتابعهما بحبٍ وأنا أبتسم لتطرق أمي بكلماتها على رأسي ..(ما المضحك في الأمر؟ وما الذي يدفعك للابتسام هكذا؟) أجل فأنت حبيبة البابا والمدللة وتؤيدينه في كل شئ.. (أمي!!) ( لا يحس بي الا ولدي أحمد وحسن ).. (أمي ؟!!) يسارع أبي ليقول (لا عليك فهي تحبك أيضاً يا غيداء) (أعلم ذلك يا أبي وأنا لست بغاضبة إنها أمي ومعها الحق).

وصلنا لباب البيت عشية يوم خريفي بارد،وأقفز مهرولة لأسبق الجميع للدخول للمنزل الذي أستأجره والدي لإقامتنا تتبعني كلمات والدي (تمهلي) ويضحك وهو يكمل جملته (غرفُ النوم بالطابق العلوي) قفزت بخطوات واسعة فوق الدرج لأجد نفسي بالطابق الثاني وصرت أدلف غرفة وراء أخرى حتى تخيرت غرفتي، يصرخ أحمد من ورائي (هذا ليس عدلاً دائما تتخيرين الغرف أينما حللنا..) (من حقي أستاذ أحمد فأنتم أغلب أوقاتكم تقضونها خارج المنزل أما أنا فأغلب وقتي أقضيه داخل المنزل فمن حقي أن أتخير غرفتي الخاصة والتي أقضي بها أغلب أوقاتي).. يستشيط غيظاً ويبحث عن شئ حوله ليقذفني به ليتدخل أخي (حسن) وينهي هذه المعركة الأخوية بكلماته المعتادة ( أحمد غيداء أختنا الوحيدة فلا بأس بما تفعله) ويختم جملته ببسمة أخوية محببة لقلبي.

كانت الغرفة واسعة لها نافذتاهن أحداهما شرقية تُطل على الشارع الرئيسي والأخرى غربية تطل على حديقة تحمل وسطها ملعباً كرة السلة وكانت تحتاج بعض الطلاء، ولكن لأبأس، بعد أن تأملت غرفتي رحت أتأمل باقي المكان كان معتم بعض الشئ ورجحت سبب عتمته للأجواء الخريفية الباردة، غرفة أخوتي لم تكن بعيدة عن غرفتي، يفصلنا ممر ذو زاوية قائمة، أما غرفة أبي وأمي فكانت في آخر الرواق لدور العلوي. مطبخ صغير وصالة مفتوحة ذات مكتبة زجاجية قديمة وبعض الآثار لخربشات طفولية بالتأكيد كانت لمن سبقونا بالسكن. أفيق من جولتي الاستطلاعية على صوت أمي وهي تنادينا لنساعدها على ترتيب المتاع داخل المنزل، صحيح لم يكن أثاثنا بذلك الكم الهائل ولكنه احتاج ثلاثة أيام حتى استطعنا أن نضع كل شي مكانه.

رتبنا الطابق الأرضي وغرفة أمي وأخوي وتركت غرفتي كآخر مكان لترتيبه، وقفت وسط غرفتي ورحت أجول بنظري عبر الصناديق الكرتونية والأكياس العملاقة ورحت أحدث نفسي لن يترتب المكان حتى أضع كتبي وكنوزي مكانها، وما إن حل الظلام وكان موعد العشاء حتى انتهيت من ترتيب غرفتي سمعت طرقاً خفيفاً على باب غرفتي (تفضل) لم يدخل أحد زادت الطرقات سرعة وخفة على الباب، قفزت غاضبة نحو باب غرفتي وأنا أصرخ أحمد أيها الغبي، فأخي أحمد دائماً، يحاول إخافتي كوني أحب القصص الغامضة ودائما ما كان يقول يسبب ولعك بهذه القصص ستضعين نفسك في مشاكل لاحل لها.

في لحظة قفزي لباب الغرفة والطرقات مازالت مستمرة على الباب وانا أزمجر افتح الباب  بقوة وسرعة لتكون المفاجأة… ( لا أحد خلف الباب) اقفز داخل الممر للمر وأنا أبحث عن خيال أحد أخوي وأنا أنادي (أحمد..حسن..أحمد..حسن ) لتجيبني أمي من الطابق الأرضي لقد خرجا منذ الصباح ولم يعودا إلى الآن فتوقفي عن الصراح.. ولكن..؟! صمت لبرهة ودخلت غرفتي من جديد وأقفلت بابها ولم تمض ثواني معدودة حتى عادت الطرقات الخفيفة على الباب تعاود لحنها.. (ياإلهي) فتحت الباب متذمرة فلم يكن أمامي إلا الصالون الجلدي الغامق اللون هدية جدي لأمي، (مالي ومال الصالون من يحاول أن يلعب بأعصابي هكذا، إنه أحمد بلا ريب  فإنه متفنن في مقالب الإخافة، فهو يعلم جيداً ولعي بقصص الغرائب والغموض ويحاول أن يخيفني حتى أنسى مثل هذه القصص).

وقفت مطولاً عند باب غرفتي وكانت مني نظرة لأعلى باب غرفتي وكانت المفاجأة قطعة ورق بلاستيكية ملونه تستعمل في الحفلات وأعياد الميلاد مثبتة عند أعلى زاوية باب غرفتي بشريط لاصق، تحركه نسائم خفيفة قادمة من النافذة التي تتوسط ممر الدور العلوي وطرفها يخلف طرقات خفيفة تتسارع كلما تسارعت هبات الهواء البارد، وأنا وبخيالي الواسع ظننت أنه هناك من يطرق باب غرفتي ولم تعد تحملني قدماي فجلست أرضاً وأنا أقهقه لم أشعر خلال قهقهتي إلا بأمي وهي فوق رأسي تهزني لتوقظني من موجة الضحك الهستيرية التي دخلت فيها.

(هل جننت ؟! ما بالك؟ غيداء توقفي عن الضحك وأخبريني ما بالك؟) ما أن سيطرت على نفسي قليلاً حتى رويت لها ما حدث لتقول لي (( صدقيني بنيتي فأخرك سيكون الجنون، أتعلمين ما دمت تبحثين عن قصص الأشباح والغموض سينتهي بك الأمر وأنت تظنين بأن ظلك هو شبح رجل ميت ))؟ وكان المساء وكان العشاء وعلى الطاولة كان الجميع يلتهم ما في صحنه فالجوع أخذ منا النهار بطوله ورحت ابتسم كلما تذكرت ما حدث معي، سألني والدي (هل لنا أن نشارك ابتسامتك) فألتفتت له والدتي (وستشاركها جنونها بإذن الله لو بقيت على هذا الحال) تساءل والدي ما لذي جرى فأخبرته أمي بما حصل وما إن أكملت كلامها حتى انفجرت ضاحكة، وضحك أبي وأخوي، بعد العشاء، جلسنا نحتسي الشاي بالنعناع فهو المشروب المفضل لوالدي بعد العشاء، ولنا جميعاً ورحنا نتجاذب أطراف الحديث حول المنزل والمدرسة والشارع والجيران وكيف هم؟ والملعب خلف منزلنا أصبح مهجوراً ولم يعد أحد يستعمله فهو يحتاج للصيانة ليس الملعب فقط (وكذلك منزلنا هذا) قلت جملتي هذه وأنا أجول ببصري بين النوافذ والأرضية والجدران (درابزين السلم أيضا) محتاج لصيانة.. (أبي) (ما بك غيداء) أليس غريباً أن يكون منزل بهذا الحجم وبهذا الموقع رخيصاً في إجاره (عزيزتي لا تفكري كثيراً فالأمر عادي فالله كريم وأنت بقصصك الخيالية والبوليسية ستقوديننا لجنون فعلاً) يتبع جملته بضحكة عالية ليوقظني من سرحاني بأن موعد النوم قد حان وأن الغد ينتظرهم بطوله صعدنا لطابق العلوي متجهين كل منا لغرفة نومه وانا بين متأملة في المكان ومصغية بحذر شديد لكل الأصوات المحيطة بنا..

لم أدر كيف سرت وكيف استغرقني النوم، فلم يوقظني إلا أصوات زخات خفيفة لسحابة خريفية عابرة على زجاج نافذتي، استيقظت وأنا أشعر بإنهاك شديد وكأنني كنت أركض ألف ميل بلا هوادة، نزلت حافية تلسعني برودة البلاط في باطن قدمي وأنا أتبع رائحة القهوة الطازجة وهى تملأ المكان، وأثناء عبوري الممر واتجاهي نحو الدرج سمعت صوت سعالات خفيفة ظننت أنها لوالدي ولكنني تذكرت إنه اليوم الدراسي الأول في المدرسة قد يكون أحمد أو حسن؟!.

وصلت إلى الطاولة وجلست عند أقرب كرسي بجانب إناء القهوة ( صباح الخير يا أمي)( صباح الخير..ما بالك غيداء ) لا أدري أحس بأني متعبة كأنني كنت أركض طوال الليل (لا تقلقي هذا بسبب الأيام الماضية وترتيب المنزل القهوة ستعيد نشاطك) أخذت أرشف القهوة الساخنة وأستطعم الهال الذي يمتزج معها في نكهة عجيبة ومحببة لكل محبي شرب القهوة.

( أمي لقد سمعت أحمد وقد يكون حسن يسعل وقد نبهتهما أن يلبسا جيداً فالجو متغير وقد يصابان بالبرد) ألتفت أمي لي قائلة :- (أحمد وحسن خرجا مع والدك صباحاً، عن أي سعال تتحدثين؟!) تسمرت يدي وأنا أضع الفنجان على شفتي لأرتشف آخر دمعات قهوتي).

(أأنت واثقة من ذلك أمي؟! )

غيداء لقد جهزت الإفطار في الصباح الباكر لكل من أخوتك ووالدك ولم يعد أي منهم إلى حد الآن فعن أي سعال تتحدثين لقد رجعت لخيالاتك وأحلام اليقظة لينتهي الأمر بقطة أو هر يفترش النافذة ويسعل..).

(أمي) .. (غيداء لقد ضقت ذرعاً بما تفعلينه وأصبحت أصاب بالرعب بسببك أنت)، كان صمتي هو الملاذ الوحيد تركت فنجاني وحيداً وصعدت الدرجات في تثاقل وما إن وصلت أخر الدرج حتى سمعت نفس أصوات السعال ولكن هذه المرة بشكل أوضح وأقرب ،نزلت مسرعة وأنا أرتعد خوفاً ولم أرد أن تراني أمي وأنا بهذه الحالة فيكفيني ما سمعت منها.

اتصلت بوالدي الذي عاد مهرولاً للمنزل ليجدني انتظره على درجات سلم المنزل الخارجي (ماذا هناك يا غيداء؟! )

خالد.. ماذا هناك لما رجعت باكراً ؟!

(أعادني صوت غيداء المرتعش؟!)

(غيداء!!! لقد كانت بجانبي وتشرب القهوة في المطبخ و..) ( وماذا يا ماجدة؟! ) (اسمعني يا خالد دلالك لابنتك وتركك لها تقرأ قصص الغموض والأشباح سيدفعها للجنون حتماً..لقد أصبحت تتخيل لها أشياء وتسمع أصواتاً ليس لها واقع).

عندها استيقظت وأخبرت أبي بما سمعت كان صوت سعال واضحاً لشخص يعاني من مشكلة ما دخل أبي المنزل وصعد درجات السلم في حذر وهدوء وفعلاُ سمع صوت سعال آدمي، نزل بعدها مهرولاً ليطلب الشرطة فقد يكون أحدهم مختبئا في أحد زوايا المنزل الذي لم نستكشفه بعد وحضرت سيارة النجدة وطوق المنزل، وبدأوا يفتشون المنزل وأخذوا يطرقون جدرانه حتى وصلوا لأعلى لدرج في الطابق العلوي وكانت المفاجأة الصاعقة غرفة مخفية بشكل لا مثيل له وكأنها قطعة واحدة مع جدار المنزل تنبعث منها رائحة العفن والرطوبة كونها لم ترى النور أو يلامسها هواء وقد تكومت وسطها قطعة قماش رمادية اللون تكاد تتحول إلى السواد لم تكن هذه القطعة خالية بل كانت تحوي مفاجأة أخرى لم تخطر على بال أحد كان أحدهم متكوماً على الأرض داخل تلك الثياب البالية ويسعل كان يشبه إنسان الكهف الأول بشعره الأشعت المغبر ولحيته التي غطت كامل وجهه ولونه الذي تحول إلى رمادي وكأنه أحفورة قديمة.

تم إخراجه في هدوء وبطء لأنه لم يتحمل الضوء الباهر، وكأنه لم يرى النور لسنوات طوال كان من بين الضباط المتواجدين ضابط عريق شهق بصوت عالي مستحيل، وأخذ يردد كلمة( هذا مستحيل هذا مستحيل..) أخذ المحيطون به يتسألون ما المستحيل فأخبرهم بأن هذا الشخص ما هو إلا ( أمجد سالم ) الذي اختفى منذ 25 عاماً ولقد ظننا وقتها إنه قد مات.

رحت أتساءل من أمجد سالم هذا؟!! الذي كاد يقتلنا رعباً فكانت القصة الأكثر غرابة لـ أمجد سالم.

قبل 25 عاماً حاول بعض اللصوص الدخول لمنزله لسرقته فما كان منه الا قتلهم ببندقية صيد تبين فيما بعد أن هؤلاء اللصوص ما كانوا إلا الأخوة الذين يسكنون بجوار منزله ،و كان دائما يتشاجر معهم بسبب أعمالهم الصبيانية ورغم كون دفاعه عن منزله مشروعاً خاف من أن يربط في المحكمة بين عملية قتله لهم وشجاره الدائم معهم بأنه كان مع سبق الإصرار والترصد، صارح زوجته آنذاك بمخاوفه وانفقا على أن يختفي عن الأنظار دون علم أي أحد حتى أبنائه لم ولن يعلموا عنه شيئاً ولن يكون الاختباء مجدياً لو لم يكن في مكان لا يخطر ببال أحد فاختبأ داخل غرفة سرية طوال السنوات الماضية وماتت زوجته بعد شهور قليلة من اختفائه، ولم يعد يعلم عن العالم الخارجي شيئا فأصبح يخرج في هدوء تام ليأكل ويشرب ليعود أدراجه قبل أن يستيقظ لوجوده أحد ممن توالوا على إيجار هذا المكان، ما لم يخطر ببال ( أمجد سالم ) إنه وبعد اختفائه وموت زوجته اعترفت والدة اللصوص بأنهم هم من قاموا بالاعتداء على منزل أمجد ومحاولة سرقته وبذلك سقطت التهمة عنه بحكم براءته ولكن ( أمجد ) لم يكن يدري بأي من هذه التفاصيل، فمن كانت تصله بالعالم الخارجي وتخبره بكل جديد توفيت قبل نطق بالحكم وظل أمجد رهين مجهول لم يعلم ما نهايته حتى كانت غيداء يعد هذه السنوات الطوال هي المفتاح لآخره وإنهاء معاناته وقد تكون بداية لمعاناته، فمن سيعوض له السنوات التي قضاها في خفاء؟! وهل ستستمر غيداء في البحث ومطالعة المجهول بعد الذي حدث؟! لو كنتم مكانها ماذا ستفعلون؟

جريمة السيد (أمجد سالم) والتي حكم فيها القضاء ببراءته وحكم فيها هو بنفسه باختفاء قسري وطبقاً لأحكام قانون العقوبات والقوانين المكملة لها وبما أنه وخلال اختفائه وجهله بمجريات القضاء والحكم، فإنه وإن تم الحكم عليه فإن العقوبة المحكوم بها في جناية تسقط بمضي عشرين سنة إلا عقوبة الإعدام فإنها تسقط بمضي ثلاثين سنة واعتراف والدة اللصوص ببراءة السيد ( أمجد ) إلا أنه بقي رهينة سجن خوفه واحتمالات لا وجود لها فكان أن ضاعت 25 عاماً من عمره خوفاً من بعبع المجهول، والمواجهة كانت هي الحل منذ البداية ولكنه القدر إذا وقع فقد عمي البصر.